( ظاهرة البخل عند الجاحظ )

مجتمع رجيم / التنمية البشرية وتطوير الذات
كتبت : علشأنك
-
من أطرف الأمور أن ظاهرة البخل قد ظهرت فى الحضارة الإسلامية ، فى وقت كانت أملاك الدولة الإسلامية قد اتسعت ، وثروات أهلها قد تزايدت ، وتسابق الامراء وشخصيات المجتمع الراقى على اقامة الولائم ، وتبادل الحفلات . والواقع أنه في مثل هذه البيئة وحدها ، يمكن ملاحظة تلك الظاهرة ، وهذا ما فعله الجاحظ (المتوفى سنة 255هـ/868م) فى كتابه الرائع عن البخلاء .


والواقع أن المرء ليتساءل : هل كان من الممكن أن يكتب الجاحظ عن البخلاء بطريقة أخرى ، غير تلك الطريقة الكاريكاتيرية التى صور بها أحوالهم ، وسجل نوادرهم ؟ أننا نعتقد أن أفضل طريقة لتناول هذه الظاهرة هى تلك التى استخدمها الجاحظ ، وذلك لأن التصرفات العجيبة التى يقوم بها البخلاء لا يمكن تصور تناولها إلا فى أطار ساخر ، قد يثير البسمة على شفاة السامعين ، ولكنه فى الوقت نفسه يولد فى نفوسهم شعور الاشمئزاز من البخل : دافعا وسلوكا .


ولا شك فى أن البخل خلق ذميم ، وهو مناقض تماما لطبيعة الإنسان الذى يعيش فى جماعة : يحتاج اليها كما تحتاج هى غليه . ومن المعروف أن العطاء الذى يقدمه الأفراد للمجتمع هو الذى ينهض به ، ويحوله من مجتمع أنانى متفتت إلى مجتمع متضامن قوى .
أن محاولات الافراد فى جمع الثروة لا بأس بها ، لأنه من مجموع هذه المحاولات يتكون النشاط الاقتصادى فى أى مجتمع مزدهر . وإنما يأتى الضرر من تحول جمع الثروة إلى هدف فى حد ذاته . وهذا ما نجده بوضوح لدى البخلاء .. وهو الأمر الذى كشف عنه الجاحظ بأسلوب بالغ السخرية حتى يصل تأثيره إلى قلوب الناس جميعا ، فيتنبهوا لتلك الظاهرة النشاز ، ويتجنبوها قدر الإمكان .


لقد كتب موليير (1673م) عن نفس الظاهرة مسرحيته الشهيرة "البخيل" ، بعد الجاحظ بحوالى ثمانية قرون . فلجأ إلى نفس الطريقة الكاريكاتيرية . والذين يقرأون كتاب الجاحظ "البخلاء" ومسرحية موليير "البخيل" يدركون على الفور غنى المحاولة التى قام بها المؤلف العربى ، وتنوعها واشتمالها على عدد هائل من نماذج البخل ، على حين اقتصر الكاتب الفرنسى على نموذج واحد فقط !


ولسنا هنا بصدد عقد مقارن بين الكاتبين ، فلكل منهما مزاياه التى لا تنكر ، وانما الذى يهمنا هو أن الجاحظ قد سجل لنا فى كتابه الرائع ظاهرة البخل بمعظم جوانبها ، وأن هذه الجوانب قد وردت فى صور نابضة بالحياة والحركة : فنحن أمام حوادث تقع ، وشخصيات رئيسية تفعل وتتكلم ، وشخصيات ثانوية ترصد وتعلق .. كذلك لا تفتقد المكان ، ولا الزمان ، ولا حتى الديكور الذى تجرى فيه الحوادث .. ثم هناك "الاسماء" التى توحى إلينا بوثاقة الروايات ، وتضفى عليها مسحة تاريخية ، تشدنا إلى الواقع ، وتقربنا من أحداثه وشخصياته ، وبالتالى تضعنا فى منطقة التأثير المباشر له .


ليس معنى هذا أن الجاحظ كان على وشك أن يكتب مسرحية ، مثل موليير ، وإنما الملاحظ أن النوادر المختلفة التى جمعها فى كتابه : تنهض كل واحدة منها لتكون موقفا مسرحيًا متكاملاً .
لقد كان اهتمام الجاحظ بظاهرة البخل كبيرا . ولا يمكن بحال ما أن نغفل الجهد الذى بذله فى تتبع هذه الظاهرة : رصدا ، وتحليلا، وتسجيا . ولا شك فى أن الآثار الاجتماعية والخلقية لهذه الظاهرة على عصره قد شدته إليها بعنف . مما جعله يتقدم لعلاجها فى مثل هذا لاهتمام .
ويتمثل الجهد الذى بذله الجاحظ فى جمع حكايات البخلاء ونوادرهم من الرواة من الكتب ، والسعى بنفسه اليهم ، وانفاق الكثير من الوقت لمعايشتهم ، رغبة فى الوقوف على أحوالهم بدقة ، ثم الدخول معهم فى مناقشات مستفيضة حول مفهوم البخل : مصدره ، وعيوبه ، والآثار الاجتماعية الناتجة عنه ، وأخيرًا التعليق على نوادرهم بسخرية حادة ، والتركيز على كل ما يحط من قدرهم ، ويسقط مروءتهم ! .


إننا نظام الجاحظ كثيرا عندما تعتبر كتابه عن البخلاء كتاب أدب ، أو مجموع تسلية .. ومن الملاحظ أن كثيرًا من الدارسين قد كتبوا عنه من هذه الزاوية . ونحن من جانبنا لا نعترض عليها . فالجاحظ أديب كبير ، بل إنه من أشهر أعلام الأدب العربى . ولكنه بالإضافة إلى ذلك : مفكر عميق ، ومصلح اجتماعى من الطراز الأول . وهذا ما ينبغى ألا يغيب عنا أبدا ، وخاصة عندما نقرأ كتابه "البخلاء" .


لماذا كتب الجاحظ عن ظاهرة البخل ؟ قيل انه هو نفسه كان بخيلا. () وربما يعتمد القائلون بهذا على بعض نظريات علم النفس التى تقرر أن هناك ارتباطا عاطفيا يوجد دائما بين المؤلفين وبين الموضوعات التى يكتبون عنها . ونحن لا نسلم بهذا على أطلاقه . فالجاحظ فد كتب عن نوادر الحمقى واللصوص .. كذلك فإن الموضوع الذى يستهوى الكاتب قد يكون مناقضا تماما لميوله وأخلاقه، وهذا التناقض هو الذى يدفعه إلى أن يقوم بدراسته ، ويكتب للناس عنه : ايغالا فى تسجيل موقفه ، وتتغير الناس منه .


وهذا – فى رأينا – هو ما يفسر اهتمام الجاحظ بظاهرة البخل. لقد لاحظ هذا المفكر الكبير أن انتشار هذه الظاهرة – التى تتناقض مع أشهر ما تميز به العرب وهو الكرم – سوف يؤدى بالمجتمع الإسلامى إلى الانغلاق على نفسه ، والانانية فى معاملاته ، والعزلة فى حياته .. وهى الصفات التى ترتبط بكل إنسان بخيل ، كما أنها هى نفسها الصفات التى تلتصق بأى مجتمع متخلف .


منهج الجاحظ فى البخلاء :


بدأ الجاحظ فحدد موضوع كتابه بأنه يتناول "نوادر البخلاء واحتجاج الاشحاء"() مع وعد بالكشف عن تركيبهم المتضاد ، ومزاجهم المتنافى ، الذى عاندوا له الحق ، وخالفوا به الأمم() .
كما حدد الغرض منه بأنه محاولة لاستعراض عيوب البخل ، الظاهر منها والخفى ، حتى يمكن تجنبها والتخلص مما قد يكون بالإنسان منها ، وهو لا يدرى .
ثم أشار إلى أهمية الموضوع فذكر أن معرفة داء البخل من أهم ما ينبغى لكل ذى مروءة أن يلم به ، حتى يحمى من الذم عرضه، ويطهر من اللؤم سيرته .
وقد صرح الجاحظ بأنه قد اعتمد فى مادة البخلاء على مصدرين : أحدهما ملاحظاته الشخصية عن البخلاء وتجاربه معهم . والثانى : الروايات التى انتهت إليه "من أخبارهم على وجهها"– أى دون تدخل فيها بحذف أو تغيير .
وقد عبر الجاحظ سريعا على خطة الكتاب ، فقال : "ونحن نبتدئ برسالة سه بن هارون ، ثم بطرف أهل خرسان ، لاكثار الناس فى أهل خراسان" .
والواقع أن الترتيب الموضوعى لم يكن فى حسبان الجاحظ ، وهو يضع هذا الكتاب . فالقصص والنوادر تتوالى دون رابط عقلى متطور ، وتختلط ، إلى حد كبير ، موضوعات البخل على النفس ، مع البخل على الاقارب ، مع البخل على الاصدقاء .. وهكذا .
وقد يمكن القول بأن الترتيب الذى ننشده ، لا يتلاءم مع الموضوع الذى قصد من تناوله : وضع لمسة من هنا ، ولمسة من هناك ، حتى تكتمل ، لدى القارئ فى النهاية ، صورة واضحة عن ذلك الخلق الردئ المشتبك فى أعماق النفس الإنسانية .
الاساس اذن نفسى . فلا ينبغى أن نطالب صاحبه بترتيب عقلى . وأن كان هذا لا يمنعنا ، عند الدراسة التحليلية ، أن نصنفه على أساس المنهج العقلى .
يقال : أن المؤلف أدرى الناس بعيوب كتابه . وعظمة الجاحظ تتمثل فى تصريحه بأحد هذه العيوب ، حين يذكر أن الكتاب لن يكون مكتملا تماما طالما أنه أسقط منه بعض أسماء الشخصيات التى تحدث عن بخلها "أما خوفا منهم أو مجاملة لهم – ولكنه يتعزى عن ذلك بأن ها هنا "أحاديث" كثيرة متى أطلعنا منها حرفا عرف أصحابها ، وأن لم نسهم ، ولم ترد ذلك بهم".
وازاء هذه الروح العلمية الامينة لا يمكن للباحث أن ينتهى من قراءة "البخلاء" حتى يكون قد تكون فى ذهنه سؤال ملح :
- هل خلت التخصص والنوادر المروية تماما من تدخل الجاحظ فيها ؟
ان الرصد المتأنى لادق التصرفات الانسانية ، والملاحظة الذكية لاسرع انفعالات النفس ، ثم تقديم هذا وذاك فى صور كارياتيرية نابضة بالحياة والحركة ، كل هذا يدل على أن للجاحظ نصيبا كبيرا ، بل أكبر مما يتصور ، فى مادة البخلاء . وسوف نشير فى أثناء التحليل إلى بعض الملاحظات التى تؤكد هذه الدلالة .
ظاهرة البخل :
كان اهتمام الجاحظ بظاهرة البخل كبيرا . ولا يمكن بحال ما أن نغفل الجهد الذى بذله فى تبع هذه الظاهرة : رصدا ، وتحليلا ، وتسجيلا .
ولا شك فى أن الآثار الاجتماعية والخلقية لهذه الظاهرة على عصره قد شدته إليها بعنف ، ما جعله يتقدم لعلاجها فى مثل هذا الاهتمام . ويتمثل الجهد الذى بذله الجاحظ فيما يلى :
- جمع حكايات البخلاء ونوادرهم من الرواة أو من الكتب .
- السعى إليهم بنفسه ، وانفاق الكثير من الوقت لمعايشتهم رغبة فى الوقوف على أحوالهم بدقة .
- الدخول معهم فى مناقشات مستفيضة حول البخل : مصدره ، وعيوبه ، والآثار الاجتماعية الناجمة عنه .
- التعليق على نوادرهم بسخرية حادة . والتركيز على كل ما يحط قدرهم ، ويسقط مروءتهم .
هذا وقد انطلق الجاحظ من بداية طبيعية ومعقولة فى آن واحد ، وهى أن البخل الذى اهتم بتسجيل ظواهره ، هو ذلك النوع العادى ، الممكن وجوده فى الناس ، والمحتمل حدوثه فى كل وقت ، لا ذلك البخل الشاذ الذى يبدو فى ظواهر مفردة ومتفرقة ، غير محكوم باتجاه مطرد ، أو نزعة علمي فهو يقول : "وإنما نحكى ما كان فى الناس ، وما يجوز أن يكون فيهم مثله" .
لذلك نراه لا يتعرض لقوم فقراء يضيقون على أنفسهم وأخوانهم لأنهم لا يجدون ما يوسعون به عليهم . فيقول : وقد عاب ناس أهل المازح والمدبر بأمور .. وأهل المازح لا يعرفون بالبخل ، ولكنهم أسوأ الناس حالا ، فتقديرهم على قدر عيشهم . وإنما نحكى عن البخلاء الذين جمعوا بين البخل واليسر ، وبين خصب البلاد وعيش أهل الجدب. فأما من يضيق على نفسه لأنه لا يعرف الا الضيق ، فليس سبيله سبيل القم" .
فإذا ما تدرجنا مع الجاحظ من هذه لبداية الطبيعية ، أمكننا أن نحصر عدة مظاهر أو أنماط للبخل ، وجدنا من المناسب تصنيفها على الوجه التالى :


- البخل على النفس .
- البخل على الامهات .
- البخل فى الحياة الزوجية .
- البخل فى الابناء .
- البخل على الخدم .
- البخل على الأقارب .
- البخل على الاصحاب .
- البخل فى مجال المعاملات .
- البخل فى السلوك .
- انعكاس البخل على المظهر الخارجى للانسان .


1-البخل فى النفس :


قال الجاحظ : حدثنى محمد لن حسان . قال : أخبرنى زكريا القطان . قال : كان للغزال قطعة أرض قدام حانوتى ، فأكى نصفها من سماك ، يسقط عنه ما استطاع من مؤنة الكراء . وكان الغزال أعجوبة فى البخل !
كان يجىء من منزله ومعه رغيف فى كمه (جيبه) فكان أكثر دهره يأكله بلا أدم . فإذا أعيا عليه الأمر . أخذ من ساكنه جوافة (بضم الجيم : واحدة من سردين ردئ) بحبة (1/16 من الدرهم) وأثبت عليها فلسا (1/96 من الدرهم) فى حسابه .
فإذا أراد أن يتغذى أخذ الجوافة . فسمحها على وجه الرغيف، ثم عض عليه ، وربما فتح بطن الجوافة ، فقضم جنبها وبطنها باللقمة بعد اللقمة ، فإذا خاف أن يمزقها ذلك ، ويذهب ببطنها طلب من السماك شيئًا من ملح السمك ، فحشا جوفها لينفخها ، وليوهم أن هذا هو ملحها الذى ملحت به من قبل ، ولربما غلبته شهوته فكدم طرف أتفها ، وأخذ من طرف الأرنبة ما يسيغ به لقمته . وكان ذلك منه لا يكون الا فى آخر لقمة ليطيب فمه بها ، ثم يضعها فى ناحية .


فإذا اشترى من امرأة غزلا . أدخل تلك الجوافة فى ثمن الغزل ، من طريق ادخال العروض ، وحسبها عليها بفلس ، فيسترجع رأس المال ، ويفضل الادم !!() .
ومن الواضح أن القصة لا تحتاج إلى تعليق . غير أنه من الممكن أن نتوقف قليلا أمام ما ورد فيها من مظاهر البخل التى تتصل بالسلوك ، وتستتبع عدد آخر من الأخلاق الرديئة كالظلم ، والاستغلال والتحليل .


فالغزال أولا يؤجر قطعة أرض مستأجرة له من الباطن – كما يشيع فى عصرنا الحاضر – حتى يسقط قدرا من أجرتها عليه . وثانيا : يستغل مركزه كصاحب عقار ، فيظلم البائع بأن يأخذ منه ما يساوى حبة بفلس ، وليته يدفع الثمن فى الحال وإنما يجعله من أجرة الأرض ، ثم هو لا يلبث أن يستمنح السماك – دون مقابل – قدرا من الملح ليصلح به ما أفسده ، وأخيرا ينتهز حاجة امرأة فقيرة تبيعة غزلها ، فيضطرها لقبول السمكة – فى حالتها المتهرئة – من ثمن الغزل ، فى صفقة يحصل منها فى الحال على ما اشتراه بالأجل !
فإذا عدنا إلى ذلك التصوير السينمائى الرائع للغزال وهو يتعامل مع السمكة فى نهم وحرص . فى اقدام وشفقة ، وجدنا أنفنا نضحك كثيرا ، ولكنه الضحك الذى يولد فينا الاشمئزاز من أمثاله ، ويستثير من أعماقنا الكراهية لهم .


ونموذج آخر : يقدمه الجاحظ عن صديقه اليزيدى الذى توفى أبوه عن ثروة طائلة ، فاقتسمها هو وأخوه قبل دفنه . يروى الجاحظ :
قلت له – وقد ورث هذا المال كله – ما أبطأ بك الليلة ؟
قال : لا ، والله ، الا أنى تعشيت البارحة فى البيت .


فقلت لاصحابنا : لولا أنه بعيد العهد بالاكل فى بيته ، وأن ذلك غريب منه ، لما احتاج إلى هذا الاستثناء ، وإلى هذه الشريطة.. وأين يتعشى الناس غلا فى منازلهم ؟! وإنما يقول الرجل عند مثل هذا السؤال : لا ، والله ، الا أن فلانا حبسنى . ولا والله غلا أن فلانا عزم على . فأما أن يستثنى ويشترط فهذا ما لا يكون غلا على ما ذكرناه" .


ثم يعلق الجاحظ قائلا : "ولا تقولوا الآن : قد ، والله أساء أبو عثمان إلى صديقه . ومن كانت هذه صفته ، وهذا مذهبه فغير مأمون على جليسه .. اعلموا أنى لم ألتمس بهذه الأحاديث عنه الا موافقته ، وطلب رضاه ومحبته ، لقد خفت أن أكون عند كثير من الناس دسيسا من قبله . وكمينا من كمائنه ، وذلك أن أحب الأصحاب إليه : أبلغهم قولا فى أياس الناس مما قبله ، وأجودهم حسما لاسباب الطمع فى ماله .
على أنى أن أحسنت بجهدى ، فسيجعل شكرى موقوفا. وإن جاوز كتابى هذا حدود العراق شكر ، والا أمسك . لأن شهرته بالقبيح عند نفسه فى هذا الإقليم قد أغنته عن التنويه والتنبيه على مذهبه"() .


2-البخل على الامهات :


فقد لا نعثر فى كتاب لبخلاء على نماذج من البخل على الآباء، وإنما نلتقى فقط بنماذج البخل على الامهات . فهل يمكن تفسير ذلك بأن الجاحظ – وقد أدرك أن ارتباط الانسان بأمه أقوى وأشد من ارتباطه بأبيه – اكتفى بذكر البخل على الامهات ، ليشمل بالضرورة البخل على الآباء اذ لا يتصور أن يبخل الانسان على أمه ثم يكون أكثر تسامحًا مع أبيه .


كتب الجاحظ : حدثتنى امرأة تعرف الامور ، قالت : كان فى الحى مأتم اجتمع فيه عجائز الحى . فلما رأين أن أهل الميت قد أقمن المناحة ، اعتزلن وتحدثن ، فبينما هن فى الحديث ، إذ ذكرن بر الابناء بالامهات ، وانفاقهم عليهم . وذكرت كل واحدة منهن ما يوليها ابنها – هذا وأم فيلويه (تنطق مثل سيبوية) ساكتة . وكانت امرأة صالحة ، وابنها يظهر النسك ، ويدين البخل ، وله حانوت فى مقبرة بنى حصن ، يبيع فيه الأسقاط .
فأقبلت على أم فيلويه ، قلت لها : مالك لا تتحدثين معنا من ابنك ، كما يتحدثن ؟ وكيف صنع فيلويه فيما بينك وبينه ؟ .


قالت : كان يجرى على فى كل أضحى درهما . فقالت : وقد قطعه أيضا لقلت : وما كان يجرى الا درهما ؟ قلت : ما كان يجرى على الا ذلك . ولقد ربما أدخل أضحى فى أضحى ! فقلت : يا أم فيلويه ، وكيف يدخل أضحى فى أضحى ؟ قد يقول الناس : ان فلانا أدخل شهرا فى شهر ، ويوما فى يوم ، فأما أضحى فى أضحى فهذا شئ لا يشركه فيه أحد !!() .
فإذا تأملنا وصف فيلويه بأنه كان ممن "يظهر النسك" أمكننا أن ندرك بعدا آخر للقصة ، وهو أن محاولة الاكتساء بالمظهر الدينى وحده لا يمكن أن تخدع المجتمع . كما أن قيمة الإنسان الحقيقية أنما تكمن فى مقدار عطائه للآخرين . وأى جدوى منه أن لم يفض هذا العطاء على أقرب الناس اليه ؟! .


ونموذج آخر : يقول الجاحظ حدثنى المكى قال : كنت يوما عند العنبرى ، إذا جاءت جارية أمه ، ومعها كوز فارغ ، فقالت : قلت أمك : بلغنى أن عندك مزملة (جرة يوضع حولها ثوب مبتل ليبردها) ويومنا يم حار ، فابعث إلى بشربة منها فى هذا الكوز .
قال : كذبت . أى أعقل من أن تبعث بكوز فارغ ، وترده ملآن . اذهبى فاملئيه من حبكم (بضم الحاء وهو الزير) وفرغيه فى حبنا ، ثم املئيه من ماء مزملتنا ، حتى يكون شئ بشئ ! .