كل اسبوع لقاء مع كتاب
مجتمع رجيم / قصيدة وشعر
كتبت :
didi21
-
حبيباتى الغاليين وحشتوووووووووووووووونى
وكنا قد توقفنا لفتره واليوم نعود من تانى مع كتاب جديد
مــَــمــِــنــون أو الحكمة البشرية
بقلم : فولتير
ترجمة : نديم خشفة
من كتاب خمس قصص فلسفية
رسم (( ممنون )) لنفسه ذات يوم خطة غير معقولة هي أن يكون حكيما ً كاملا ً. لم يعد يوجد رجال لا تخطر هذه الفكرة على أذهانهم أحيانا ً .
قال ممنون لنفسه : (( لكي تكون حكيما ً كاملا ً ، وسعيدا ً بالتالي ، فما عليك إلا أن تكون بلا نزوات . ولا أسهل من ذلك كما تعلم . أولا ً : لن أعشق امرأة أبدا ً . لأنه عندما يقع نظري على الحسن التام أقول لنفسي : هاتان الوجنتان ستذويان ذات يوم . وهاتان العينان ستحيط بهما الحمرة ، وهذا العنق الأتلع سيغدو مسطحا ً ، متهدلا ً ، وهذه الجــُـمــَّـة من الشعر ستصبح صلعاء . وماعلي إلا أن أراها اليوم بالعين التي أراها بها مستقبلا ً . وهكذا أنجو من الفتنة حتما ً .
ثانيا ً : سأكون قنوعا ً دائما ً . سأتعرض لإغراء اللحم البشري والخمر اللذيذة ولغوايات الاجتماع . فما علي ّ إلا أن أتصور تبعات هذا الإسراف : ثقلا ً في الرأس وتخمة في المعدة ، ونقصا ً في العقل والصحة ومضيعة للوقت . فلا آكلنّ إلا حاجتي فتكون صحتي سليمة دائما ً ، وأفكاري واضحة ، مشرقة أبدا ً . وهذا الأمر من السهولة بحيث لايحتاج إلى ميزات خاصة لتحقيقه )).
وتابع (( ممنون )) : (( وبعدئذ ينبغي أن أفكر في ثروتي قليلا ً . رغباتي بسيطة ، فأودع أملاكي لدى المحاسب العام لمالية (( نينوى )) ، فأحصل على ماأعيش به مستقلا ً بنفسي ، غير محتاج إلى أحد .. وهذه أحسن الفضائل . ولاتلجئني الحاجة إلى التزلف ولا أحسد أحدا ً ولايحسدني أحد . وهذه غاية اليسر والراحة )) .
وأضاف (( ممنون )) : (( عندي أصدقاء أحتفظ بهم ، لأنهم لن ينازعوني في شيء . ولن يغضبوا مني ولا أغضب منهم .. ليس هذا صعبا ً )).
بعد أن رسم (( ممنون )) خطة حكمته هذه في غرفته ، أطل برأسه من النافذة ، فرأى امرأتين تتجولان تحت شجرة الدُّلب قرب منزله . الأولى عجوز لايبدو عليها أنها تفكر في شيء ، والأخرى صبية حسناء تبدو مشغولة جدا ، تتحسر وتبكي وهي في حالة يرثى لها . وقد تأثر صاحبنا الحكيم بهذا المشهد ، لابجمال المرأة ( كان متأكدا ً أنه لن يحس بمثل هذا الضعف ) ، لكن للأسى الذي رآه مسيطرا ً عليها . فنزل ودنا من الفتاة النينوية وغايته أن يخفف عنها بحكمته . فحكت له الفتاة الجميلة ببراءة مؤثرة عن الأذى الذي لحقها من خال ليس خالها حقا ً ، وعن الحيل التي عملها ليأخذ منها أملاكا ً لم تملكها أبدا ً ، وعن خوفها من عنفه بها . وقالت له :
(( يبدو أنك رجل راجح العقل ، فلو تفضلت بالمجيء إلى منزلي لتبحث في قضيتي ، فإني متأكدة من نجاتي على يديك )) . فلم يتردد عن اللحاق بها ليبحث بحكمة في قضيتها . وليسدي إليها حكمه المفيدة .
أدخلته المرأة المكروبة إلى غرفة معطرة ، وجلست معه بأدب على ســُــدّة واسعة حيث تربعا متقابلين . تكلمت المرأة مطرقة الرأس والدمع ينفر أحيانا ً من عينيها . فإذا رفعت رأسها التقت دائما بنظرات الحكيم ممنون . وكان حديثها عامرا ً بالحنان الذي يتضاعف كلما التقت عيناهما . وقد تحمس ممنون لقضيتها وأحس شيئا فشيئا ً بالفرح الغامر لأنه يسدي خدمة لامرأة على مثل هذا الشرف والبؤس . وشغلتهما حماسة الحديث فاقترب أحدهما من الآخر وحلا ّ حبوتهما . نصحها ممنون عن قرب وأبدى لها آراء بالغة الرقة ، حتى إنه لم يعد بوسع أحدهما الحديث عن القضية .. ولم يدريا أين هما . وفيما هما كذلك يدخل الخال ، أو هذا ماأوهم به . وكان مسلحا ً من فرقه إلى قدمه . وأول شيء قاله أنه سيقتل الحكيم ممنون وبنت أخته معه . وثاني شيء نطق به أنه يقبل العفو عنهما مقابل المال الوفير . فاضطر ممنون إلى أن يعطيه كل ما عنده . كان الناس سعداء في ذلك الزمان إذا نجوا بهذا الثمن اليسير . فأمريكا لم تكن قد اكتشفت بعد . والسيدات الحزانى لم يكن على ماهن من الخطورة في هذه الأيام .
رجع ممنون إلى منزله خجلا ً ، يائسا ً ، فوجد بطاقة تدعوه إلى العشاء لدى بعض أصحابه الأوفياء . فقال لنفسه : (( إذا بقيت وحيدا ً في منزلي فسوف يشتغل فكري بتلك المغامرة المحزنة فأعزف عن الطعام ويصيبني السقام ، فالأفضل أن أتعشى مع أصحابي عشاء بسيطا ً ، فأنسى بصحبتهم ماارتكبت من حماقة هذا الصباح )). ولبى الدعوة فوجده أصحابه على شيء من الحزن ، فسقوه لينسى أحزانه . فالقليل من الخمر فيه شفاء الروح والجسد . هكذا فكر ممنون الحكيم وهو في نشوته .
واقترحوا عليه أن يقامر معهم . فاللعب المنظم مع الأصحاب تزجية شريفة للوقت . فلعب وخسر كل مافي كيسه وأربعة أضعافه ضمانا ً . ثم احتدم الجدال على اللعب والتهبت النفوس ، فرماه أحد أصدقائه الأوفياء بوعاء النرد ففقأ عينه . وحمل ممنون الحكيم إلى داره سكرانا ً ، مفلسا ً ، ناقصا ً عينا .
بعد أن صحى من خماره وتوضحت الأفكار في رأسه أرسل خادمه ليأتيه بأمواله التي استودعها المحاسب العام لمالية (( نينوى )) ، ليدفع منها إلى أصدقائه الأوفياء ، فرجع إليه الخادم يخبره أن المحاسب قد ضارب بالأموال فأفلس وعادت مضارباته على مائة عائلة بالخسران .
فمضى ممنون إلى البلاط مغتاظا ً والعصابة على عينه وعريضة الشكوى بيده ، يسأل الملك إنصافه من المحاسب المحتال . في القاعة التقى عدد من السيدات قد أحطن أعناقهن بأطواق محيطها ثمانون ذراعا ً . قالت واحدة منهن تعرفه قليلا ً وهي تنظر إلى ناحية : (( ياللفظاعة )) وقالت أخرى تعرفه أكثر : (( مساء الخير ياسيد ممنون . إني سعيدة برؤيتك . بالمناسبة ..قل لي لم فقدت عينا ً ؟ )) ومضت دون أن أن تنتظر جوابه .
فاختبأ ممنون في زاوية منتظرا ً لحظة وصول الملك ليرتمي على قدميه . وجاءت هذه اللحظه . فقبــَّــل الأرض ثلاثا ً بين يديه وقدم له العريضة . فهش له صاحب الجلالة ودفع بالعريضة إلى أحد المرازبة لينظر فيها . فأخذ المرزبان ممنون إلى ناحية وقال له باستعلاء وسخرية مـُـرّة :
(( أجدك أعورا ً طريفا ً بتوجهك إلى الملك قبلي . والأكثر طرافة أنك تجرؤ على طلب إنصافك من مفلس شريف أحطته برعايتي ، وهو إبن أخت ٍ لوصيفة عشيقتي . تنازل عن هذه القضية ياصاحبي إذا رغبت في أن تسلم لك العين الباقية )) .
ممنون الذي زهد في النساء صباحا ً وفي لذيذ الطعام والقمار ، وترفع عن كل خصومة وخاصة خصومات البلاط- وجد نفسه قبل حلول الظلام وقد خدعته وسرقته امرأة جميلة ، وسكر وقامر وتخاصم وفقأ عينه ، واختلف إلى البلاط حيث هــُــزيء به وأهين .
مضى ممنون شارد الفكر ، ميت القلب من الألم . وأراد أن يرجع إلى داره فوجد حجاب المحكمة ينقلون الأثاث بعد أن حــجـز عليه الدائنون . فبقي كالمغمى عليه تحت شجرة الدّلب ،وأبصر المرأة الحسناء التي ألتقى بها صباحا ً ، تتنزه مع خالها العزيز . فانفجرت ضاحكة لرؤيتها ممنون والعصابة على عينه . وعند حلول الظلام نام على كومة من التبن مرمية تحت جدار منزله . وركبته الحــُــمــَّــى فنام مع اشتداد حرارتها ، فرأى في المنام ملاكا ً سماويا ً ، يشع بالضياء ، وله ستة أجنحة جميلة ، لكنه بلاقدمين ولا رأس ولاذنب .. ولايشبه أي شيء .
قال له ممنون : (( من أنت ؟)) فأجابه : (( عبدك المطيع )) قال له ممنون : (( رد لي عيني وصحتي ومالي وحكمتي )) . ثم روى له كيف فقد كل ذلك في الصباح .
الملاك - هذه مغامرات لاتحدث لنا في العالم الذي نعيش فيه
ممنون- وفي أي عالم تعيشون ؟
الملاك - بلدي على بعد خمسمئة مليون فرسخ من الشمس . وهو كوكب صغير قرب (( سيريوس )) الذي تراه من هنا .
ممنون - ماأجمله بلدا ً . أليس في بلدكم خبثاء يحتالون على الإنسان البسيط ، ولا أصدقاء أوفياء يقمرونه أمواله ، ويفقأون عينه ، ولامفلسون ، ولا مرازبه يهينون ويأبون إنصافك ؟
الملاك - لا .. لاشيء من هذ كله . نحن لاتخدعنا النساء أبدا ً لأنه ليس عندنا نساء . ولايتخمنا الطعام لأننا لا نأكل أبدا ً . وليس عندنا مفلسون لأننا لانملك ذهبا ً ولافضة ، ولايمكن أن تفقأ لنا عين لأنه ليس لنا أجسام كأجسامكم ، ولايجور علينا المرازبة لأن كل الناس سواء في كوكبنا الصغير .
ممنون - ياسيدي .. كيف تقضون أوقاتكم بلانساء ولاطعام ؟
الملاك - نحرس الكواكب الأخرى التي أوكلت إلينا .. وقد جئت لأواسيك .
ممنون - واأسفاه .. لم َ لم ْ تأت الليلة الماضية لتمنعني من ارتكاب كل هذه الحماقات ؟
الملاك - كنتُ بقرب أخيك الكبير ((عســَّــان )) فهو أجدر بالشفقة منك ، لأن صاحب الجلالة ملك الهند الذي أخوك من أفراد حاشيته - قد أمر به فـســُـملت كلتا عينيه لسر بسيط أذاعه . وهو الآن في السجن ، قدماه ويداه في الأغلال .
ممنون - شيء محزن أن تجد عائلة يحرسها ملاك وأحد أفرادها أعور والآخر أعمى . الأول ينام على التبن والآخر ملقى في السجن .
الملاك - سيتبدل حظك . صحيح أنك ستبقى أعور دائما ً . ولكنك ستلاقي نصيبا ً من السعادة ، على شرط ألا تحاول أن تكون حكيما ً كامل الحكمة .
ممنون- هل هو أمر من المستحيل الوصول إليه ؟
الملاك- كما أنه مستحيل أن تكون كاملا ً في المهارة والقوة والسلطان والسعادة . فما أبعدنا من ذلك . هناك كوكب توجد فيه هذه الأشياء على كمالها .
في المئة مليون من الأكوان المتناثرة في الفضاء كل شيء يتدرج بالترتيب . فتنقص الحكمة والسعادة من الكون الثاني عن الأول ، وهي في الكون الثالث أنقص منها في الثاني .. وهكذا في بقية الكون ، حتى الأخير حيث كل سكانه من المجانين خالصي الجنون .
ممنون- خوفي أن يكون كوكبنا الأرضي هو بالضبط هذا العالم الأخير الذي شرفتني بالحديث عنه .
الملاك - ليس تماما ً ، ولكنه قريب منه : وكل في فلك يسبحون . كل شيء يلزم مكانه .
ممنون : لكن .. هل أخطأ بعض الشعراء والفلاسفة في قولهم : ليس في الإمكان أبدع مما كان ؟
الملاك : هم على صواب تام بالنظر إلى ترتيب الكون كله .
ممنون : آه .. سأصدق كلامك عندما تبرأ عيني العوراء .
وكنا قد توقفنا لفتره واليوم نعود من تانى مع كتاب جديد
مــَــمــِــنــون أو الحكمة البشرية
بقلم : فولتير
ترجمة : نديم خشفة
من كتاب خمس قصص فلسفية
رسم (( ممنون )) لنفسه ذات يوم خطة غير معقولة هي أن يكون حكيما ً كاملا ً. لم يعد يوجد رجال لا تخطر هذه الفكرة على أذهانهم أحيانا ً .
قال ممنون لنفسه : (( لكي تكون حكيما ً كاملا ً ، وسعيدا ً بالتالي ، فما عليك إلا أن تكون بلا نزوات . ولا أسهل من ذلك كما تعلم . أولا ً : لن أعشق امرأة أبدا ً . لأنه عندما يقع نظري على الحسن التام أقول لنفسي : هاتان الوجنتان ستذويان ذات يوم . وهاتان العينان ستحيط بهما الحمرة ، وهذا العنق الأتلع سيغدو مسطحا ً ، متهدلا ً ، وهذه الجــُـمــَّـة من الشعر ستصبح صلعاء . وماعلي إلا أن أراها اليوم بالعين التي أراها بها مستقبلا ً . وهكذا أنجو من الفتنة حتما ً .
ثانيا ً : سأكون قنوعا ً دائما ً . سأتعرض لإغراء اللحم البشري والخمر اللذيذة ولغوايات الاجتماع . فما علي ّ إلا أن أتصور تبعات هذا الإسراف : ثقلا ً في الرأس وتخمة في المعدة ، ونقصا ً في العقل والصحة ومضيعة للوقت . فلا آكلنّ إلا حاجتي فتكون صحتي سليمة دائما ً ، وأفكاري واضحة ، مشرقة أبدا ً . وهذا الأمر من السهولة بحيث لايحتاج إلى ميزات خاصة لتحقيقه )).
وتابع (( ممنون )) : (( وبعدئذ ينبغي أن أفكر في ثروتي قليلا ً . رغباتي بسيطة ، فأودع أملاكي لدى المحاسب العام لمالية (( نينوى )) ، فأحصل على ماأعيش به مستقلا ً بنفسي ، غير محتاج إلى أحد .. وهذه أحسن الفضائل . ولاتلجئني الحاجة إلى التزلف ولا أحسد أحدا ً ولايحسدني أحد . وهذه غاية اليسر والراحة )) .
وأضاف (( ممنون )) : (( عندي أصدقاء أحتفظ بهم ، لأنهم لن ينازعوني في شيء . ولن يغضبوا مني ولا أغضب منهم .. ليس هذا صعبا ً )).
بعد أن رسم (( ممنون )) خطة حكمته هذه في غرفته ، أطل برأسه من النافذة ، فرأى امرأتين تتجولان تحت شجرة الدُّلب قرب منزله . الأولى عجوز لايبدو عليها أنها تفكر في شيء ، والأخرى صبية حسناء تبدو مشغولة جدا ، تتحسر وتبكي وهي في حالة يرثى لها . وقد تأثر صاحبنا الحكيم بهذا المشهد ، لابجمال المرأة ( كان متأكدا ً أنه لن يحس بمثل هذا الضعف ) ، لكن للأسى الذي رآه مسيطرا ً عليها . فنزل ودنا من الفتاة النينوية وغايته أن يخفف عنها بحكمته . فحكت له الفتاة الجميلة ببراءة مؤثرة عن الأذى الذي لحقها من خال ليس خالها حقا ً ، وعن الحيل التي عملها ليأخذ منها أملاكا ً لم تملكها أبدا ً ، وعن خوفها من عنفه بها . وقالت له :
(( يبدو أنك رجل راجح العقل ، فلو تفضلت بالمجيء إلى منزلي لتبحث في قضيتي ، فإني متأكدة من نجاتي على يديك )) . فلم يتردد عن اللحاق بها ليبحث بحكمة في قضيتها . وليسدي إليها حكمه المفيدة .
أدخلته المرأة المكروبة إلى غرفة معطرة ، وجلست معه بأدب على ســُــدّة واسعة حيث تربعا متقابلين . تكلمت المرأة مطرقة الرأس والدمع ينفر أحيانا ً من عينيها . فإذا رفعت رأسها التقت دائما بنظرات الحكيم ممنون . وكان حديثها عامرا ً بالحنان الذي يتضاعف كلما التقت عيناهما . وقد تحمس ممنون لقضيتها وأحس شيئا فشيئا ً بالفرح الغامر لأنه يسدي خدمة لامرأة على مثل هذا الشرف والبؤس . وشغلتهما حماسة الحديث فاقترب أحدهما من الآخر وحلا ّ حبوتهما . نصحها ممنون عن قرب وأبدى لها آراء بالغة الرقة ، حتى إنه لم يعد بوسع أحدهما الحديث عن القضية .. ولم يدريا أين هما . وفيما هما كذلك يدخل الخال ، أو هذا ماأوهم به . وكان مسلحا ً من فرقه إلى قدمه . وأول شيء قاله أنه سيقتل الحكيم ممنون وبنت أخته معه . وثاني شيء نطق به أنه يقبل العفو عنهما مقابل المال الوفير . فاضطر ممنون إلى أن يعطيه كل ما عنده . كان الناس سعداء في ذلك الزمان إذا نجوا بهذا الثمن اليسير . فأمريكا لم تكن قد اكتشفت بعد . والسيدات الحزانى لم يكن على ماهن من الخطورة في هذه الأيام .
رجع ممنون إلى منزله خجلا ً ، يائسا ً ، فوجد بطاقة تدعوه إلى العشاء لدى بعض أصحابه الأوفياء . فقال لنفسه : (( إذا بقيت وحيدا ً في منزلي فسوف يشتغل فكري بتلك المغامرة المحزنة فأعزف عن الطعام ويصيبني السقام ، فالأفضل أن أتعشى مع أصحابي عشاء بسيطا ً ، فأنسى بصحبتهم ماارتكبت من حماقة هذا الصباح )). ولبى الدعوة فوجده أصحابه على شيء من الحزن ، فسقوه لينسى أحزانه . فالقليل من الخمر فيه شفاء الروح والجسد . هكذا فكر ممنون الحكيم وهو في نشوته .
واقترحوا عليه أن يقامر معهم . فاللعب المنظم مع الأصحاب تزجية شريفة للوقت . فلعب وخسر كل مافي كيسه وأربعة أضعافه ضمانا ً . ثم احتدم الجدال على اللعب والتهبت النفوس ، فرماه أحد أصدقائه الأوفياء بوعاء النرد ففقأ عينه . وحمل ممنون الحكيم إلى داره سكرانا ً ، مفلسا ً ، ناقصا ً عينا .
بعد أن صحى من خماره وتوضحت الأفكار في رأسه أرسل خادمه ليأتيه بأمواله التي استودعها المحاسب العام لمالية (( نينوى )) ، ليدفع منها إلى أصدقائه الأوفياء ، فرجع إليه الخادم يخبره أن المحاسب قد ضارب بالأموال فأفلس وعادت مضارباته على مائة عائلة بالخسران .
فمضى ممنون إلى البلاط مغتاظا ً والعصابة على عينه وعريضة الشكوى بيده ، يسأل الملك إنصافه من المحاسب المحتال . في القاعة التقى عدد من السيدات قد أحطن أعناقهن بأطواق محيطها ثمانون ذراعا ً . قالت واحدة منهن تعرفه قليلا ً وهي تنظر إلى ناحية : (( ياللفظاعة )) وقالت أخرى تعرفه أكثر : (( مساء الخير ياسيد ممنون . إني سعيدة برؤيتك . بالمناسبة ..قل لي لم فقدت عينا ً ؟ )) ومضت دون أن أن تنتظر جوابه .
فاختبأ ممنون في زاوية منتظرا ً لحظة وصول الملك ليرتمي على قدميه . وجاءت هذه اللحظه . فقبــَّــل الأرض ثلاثا ً بين يديه وقدم له العريضة . فهش له صاحب الجلالة ودفع بالعريضة إلى أحد المرازبة لينظر فيها . فأخذ المرزبان ممنون إلى ناحية وقال له باستعلاء وسخرية مـُـرّة :
(( أجدك أعورا ً طريفا ً بتوجهك إلى الملك قبلي . والأكثر طرافة أنك تجرؤ على طلب إنصافك من مفلس شريف أحطته برعايتي ، وهو إبن أخت ٍ لوصيفة عشيقتي . تنازل عن هذه القضية ياصاحبي إذا رغبت في أن تسلم لك العين الباقية )) .
ممنون الذي زهد في النساء صباحا ً وفي لذيذ الطعام والقمار ، وترفع عن كل خصومة وخاصة خصومات البلاط- وجد نفسه قبل حلول الظلام وقد خدعته وسرقته امرأة جميلة ، وسكر وقامر وتخاصم وفقأ عينه ، واختلف إلى البلاط حيث هــُــزيء به وأهين .
مضى ممنون شارد الفكر ، ميت القلب من الألم . وأراد أن يرجع إلى داره فوجد حجاب المحكمة ينقلون الأثاث بعد أن حــجـز عليه الدائنون . فبقي كالمغمى عليه تحت شجرة الدّلب ،وأبصر المرأة الحسناء التي ألتقى بها صباحا ً ، تتنزه مع خالها العزيز . فانفجرت ضاحكة لرؤيتها ممنون والعصابة على عينه . وعند حلول الظلام نام على كومة من التبن مرمية تحت جدار منزله . وركبته الحــُــمــَّــى فنام مع اشتداد حرارتها ، فرأى في المنام ملاكا ً سماويا ً ، يشع بالضياء ، وله ستة أجنحة جميلة ، لكنه بلاقدمين ولا رأس ولاذنب .. ولايشبه أي شيء .
قال له ممنون : (( من أنت ؟)) فأجابه : (( عبدك المطيع )) قال له ممنون : (( رد لي عيني وصحتي ومالي وحكمتي )) . ثم روى له كيف فقد كل ذلك في الصباح .
الملاك - هذه مغامرات لاتحدث لنا في العالم الذي نعيش فيه
ممنون- وفي أي عالم تعيشون ؟
الملاك - بلدي على بعد خمسمئة مليون فرسخ من الشمس . وهو كوكب صغير قرب (( سيريوس )) الذي تراه من هنا .
ممنون - ماأجمله بلدا ً . أليس في بلدكم خبثاء يحتالون على الإنسان البسيط ، ولا أصدقاء أوفياء يقمرونه أمواله ، ويفقأون عينه ، ولامفلسون ، ولا مرازبه يهينون ويأبون إنصافك ؟
الملاك - لا .. لاشيء من هذ كله . نحن لاتخدعنا النساء أبدا ً لأنه ليس عندنا نساء . ولايتخمنا الطعام لأننا لا نأكل أبدا ً . وليس عندنا مفلسون لأننا لانملك ذهبا ً ولافضة ، ولايمكن أن تفقأ لنا عين لأنه ليس لنا أجسام كأجسامكم ، ولايجور علينا المرازبة لأن كل الناس سواء في كوكبنا الصغير .
ممنون - ياسيدي .. كيف تقضون أوقاتكم بلانساء ولاطعام ؟
الملاك - نحرس الكواكب الأخرى التي أوكلت إلينا .. وقد جئت لأواسيك .
ممنون - واأسفاه .. لم َ لم ْ تأت الليلة الماضية لتمنعني من ارتكاب كل هذه الحماقات ؟
الملاك - كنتُ بقرب أخيك الكبير ((عســَّــان )) فهو أجدر بالشفقة منك ، لأن صاحب الجلالة ملك الهند الذي أخوك من أفراد حاشيته - قد أمر به فـســُـملت كلتا عينيه لسر بسيط أذاعه . وهو الآن في السجن ، قدماه ويداه في الأغلال .
ممنون - شيء محزن أن تجد عائلة يحرسها ملاك وأحد أفرادها أعور والآخر أعمى . الأول ينام على التبن والآخر ملقى في السجن .
الملاك - سيتبدل حظك . صحيح أنك ستبقى أعور دائما ً . ولكنك ستلاقي نصيبا ً من السعادة ، على شرط ألا تحاول أن تكون حكيما ً كامل الحكمة .
ممنون- هل هو أمر من المستحيل الوصول إليه ؟
الملاك- كما أنه مستحيل أن تكون كاملا ً في المهارة والقوة والسلطان والسعادة . فما أبعدنا من ذلك . هناك كوكب توجد فيه هذه الأشياء على كمالها .
في المئة مليون من الأكوان المتناثرة في الفضاء كل شيء يتدرج بالترتيب . فتنقص الحكمة والسعادة من الكون الثاني عن الأول ، وهي في الكون الثالث أنقص منها في الثاني .. وهكذا في بقية الكون ، حتى الأخير حيث كل سكانه من المجانين خالصي الجنون .
ممنون- خوفي أن يكون كوكبنا الأرضي هو بالضبط هذا العالم الأخير الذي شرفتني بالحديث عنه .
الملاك - ليس تماما ً ، ولكنه قريب منه : وكل في فلك يسبحون . كل شيء يلزم مكانه .
ممنون : لكن .. هل أخطأ بعض الشعراء والفلاسفة في قولهم : ليس في الإمكان أبدع مما كان ؟
الملاك : هم على صواب تام بالنظر إلى ترتيب الكون كله .
ممنون : آه .. سأصدق كلامك عندما تبرأ عيني العوراء .