الحكمة من نزول القرآن الكريم منجماً
مجتمع رجيم / القرآن الكريم وعلومه
كتبت :
|| (أفنان) l|
-
الحكمة من نزول القرآن الكريم منجماً
الحمد لله المنعم على عباده بما هداهم إليه من الإيمان، والمتمم إحسانه بما أقام لهم من جلي البرهان، الذي حمد نفسه بما أنزل من القرآن؛
ليكون بشيراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، أما بعد:
فإن الله تعالى لما نزل كتابه القرآن الكريم على محمد صلى الله عليه وسلم أنزله منجماً، أي لم ينزل عليه جملة واحدة
كما قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً} (32) سورة الفرقان،
وكان لهذا التنزيل أسرار وحكم أرادها الله تعالى،
وفي هذا الدرس -إن شاء الله تعالى- أحببنا أن نبين كيف أنزل القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم بالتفصيل
إذ أنه اختلف في كيفية الإنزال على ثلاثة أقوال
ذكرها الزركشي في كتابه البرهان، حيث قال: اختلف في كيفية إنزاله على ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه نزل إلى سماء الدنيا ليلة القدر جملة واحدة ثم نزل بعد ذلك منجماً في عشرين سنة، أو في ثلاث وعشرين،
أو خمس وعشرين على حسب الاختلاف في مدة إقامته بمكة بعد النبوة.
والقول الثاني: أنه نزل إلى سماء الدنيا في عشرين ليلة قدر من عشرين سنة، وقيل: في ثلاث وعشرين ليلة قدر من ثلاث وعشرين سنة،
وقيل: في خمس وعشرين ليلة قدر من خمس وعشرين سنة في كل ليلة ما يقدر سبحانه إنزاله في كل السنة،
ثم ينزل بعد ذلك منجماً في جميع السنة على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
والقول الثالث: أنه ابتداء إنزاله في ليلة القدر، ثم نزل بعد ذلك منجماً في أوقات مختلفة من سائر الأوقات.
والقول الأول أشهر وأصح، وإليه ذهب الأكثرون، ويؤيده ما رواه الحاكم في مستدركه عن ابن عباس
في قوله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} (1) سورة القدر،
قال: "أنزل القرآن جملة واحدة إلى سماء الدنيا في ليلة القدر، ثم نزل بعد ذلك في عشرين سنة"،1
قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين.2
الحكم والأسرار في تنجيم القرآن:
لتنجيم نزول القرآن الكريم أسرار عدة وحكم كثيرة نستطيع أن نجملها في أربع حكم رئيسة:
تثبيت فؤاد النبي صلى الله عليه وسلم وتقوية قلبه وذلك من وجوه خمسة:
الوجه الأول: أن في تجدد الوحي وتكرار نزول الملك به من جانب الحق إلى رسوله سروراً يملأ قلب الرسول وغبطة تشرح صدره، وكلاهما يتجدد عليه بسبب ما يشعر به من هذه العناية الإلهية وتعهد مولاه إياه في كل نوبة من نوبات هذا النزول.
الوجه الثاني: أن في التنجيم تيسيراً عليه من الله في حفظه وفهمه ومعرفة أحكامه وحكمه، وذلك مطمئن له على وعي ما يوحى إليه حفظاً وفهماً وحكماً، كما أن فيه تقوية لنفسه الشريفة على ضبط ذلك كله.
الوجه الثالث: أن في كل نوبة من نوبات هذا النزول المنجم معجزة جديدة غالباً حيث تحداهم كل مرة أن يأتوا بمثل نوبة من نوب التنزيل فظهر عجزهم عن المعارضة، ولا شك أن المعجزة تشد أزره وترهف عزمه باعتبارها مؤيدة له ولحزبه، خاذلة لأعدائه ولخصمه.
الوجه الرابع: أن في تأييد حقه ودحض باطل عدوه المرة بعد الأخرى، تكراراً للذة فوزه بالحق والصواب، وشهوده لضحايا الباطل في كل مهبط للوحي والكتاب، وإن كل ذلك إلا مشجع للنفس مقوٍ للقلب والفؤاد، والفرق بين هذا الوجه والذي قبله هو الفرق بين الشيء وأثره،
أوالملزوم ولازمه، فالمعجزة من حيث إنها قوة للرسول ومؤيدة له مطمئنة له ومثبتة لفؤاده بقطع النظر عن أثر انتصاره وهزيمة خصمه بها.
الوجه الخامس: تعهد الله إياه عند اشتداد الخصام بينه وبين أعدائه بما يهون عليه هذه الشدائد، ولا ريب أن تلك الشدائد كانت تحدث في أوقات متعددة فلا جرم كانت التسلية تحدث هي الأخرى في مرات متكافئة، فكلما أحرجه خصمه سلاه ربه.
وتجيء تلك التسلية تارة عن طريق قصص الأنبياء والمرسلين التي لها في القرآن عرض طويل،
وفيها يقول الله تعالى: {وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} (120) سورة هود.
وتارة تجيء التسلية عن طريق وعد الله لرسوله بالنصر والتأييد والحفظ
كما في قوله سبحانه في سورة الطور: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا}
(48) سورة الطور
وطورا تأتيه التسلية عن طريق إبعاد أعدائه وإنذارهم نحو قوله تعالى في سورة القمر: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} (45) سورة القمر،
وطورا آخر ترد التسلية في صورة الأمر الصريح بالصبر نحو قوله جل شأنه في سورة الأحقاف: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ}
(35) سورة الأحقاف.
وغير ذلك من الأمثلة.
ويمكن أن تندرج هذه الحكمة بوجوهها الخمسة تحت قول الله في بيان الحكمة من تنجيم القرآن: {كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا}