من شمائل وخصائص الرسول صلى الله عليه وسلم الرضا
مجتمع رجيم / السيرة النبوية ( محمد صلى الله عليه وسلم )
الراوي: سعد بن أبي وقاص المحدث:مسلم - المصدر: صحيح مسلم - الصفحة أو الرقم: 386خلاصة حكم المحدث: صحيح
وهذه درة نفيسة ومقالة بديعة لابن القيم في معاني هذه الأحاديث، ومعاني هذه الأنواع من الرضا بالله وبمحمد -صلى الله عليه وسلم- وبالإسلام.
قال ابن القيم -رحمه الله-: هذان الحديثان عليهما مدار مقامات الدين وإليهما ينتهي، وقد تضمنا الرضا بربوبيته -سبحانه وتعالى- وألوهيته، والرضا برسوله والانقياد له، والرضا بدينه والتسليم له، ومن اجتمعت له هذه الأربعة فهو الصديق حقاً).
رضاً بربوبية الله ورضاً بألوهيته، ورضاً برسوله وانقياد له، ورضاً بالإسلام واستسلام له.
قال : من اجتمعت له هذه الأربعة فهو الصديق حقاً، وهي سهلة بالدعوى واللسان، وهي من أصعب الأمور عند حقيقة الامتحان، ولا سيما إذا جاء ما يخالف هوى النفس ومرادها.
ثم شرع يفصل فقال -رحمه الله-: فالرضا بإلهيته يتضمن الرضا بمحبته وحده، وخوفه ورجائه والإنابة إليه، والتبتل إليه، والنداء بكل قوى الإرادة والحب إليه.
فعلاً راض بمحبوبه كل الرضا، كيف نرى المحب مع محبوبه؟ يتعلق ويأنس به ويشتاق إليه قال: فذلك فعل المحب بمحبوبه في كمال الرضا، وذلك يتضمن عبادته -جل وعلا- والإخلاص له، والرضا بربوبيته يتضمن الرضا بتدبيره لعبده -سبحانه وتعالى- ويتضمن إفراده بالتوكل عليه، والاستعانة به، والثقة به والاعتماد عليه، وأن يكون راضياً بكل ما يفعل به.
فالأول: يتضمن رضاه بما يؤمر به، والثاني: يتضمن رضاه بما يقدّر عليه، فذاك رضاً بالألوهية، وذاك رضاً بالربوبية.
قال: وأما الرضا بنبيه -صلى الله عليه وسلم- رسولاً فيتضمن كمال الانقياد له والتسليم المطلق إليه بحيث يكون أولى به من نفسه، فلا يتلقى الهدى إلا من مواقع كلماته، ولا يحاكم إلا إليه، ولا يحكم عليه غيره ولا يرضى بحكم غيره البتة لا في شيء من أحكام ظاهرة وباطنة، ولا يرضى في ذلك بحكم غيره ولا يرضى إلا بحكمه، فإن عجز عنه كان تحكيم غيره من باب غذاء المضطر إذا لم يجد ما يقيته إلا من الميتة والدم، وأحسن أحواله أن يكون من باب التراب إنما يتيمم به عند العجز عن استعمال الماء الطهور، وأما الرضا بدين الإسلام فإذا قال أو حكم أو أمر أو نهى رضي كل الرضا ولم يبق في قلبه حرج من حكمه وسلم له تسليماً).
وهذا جماع كبير لهذه المعاني العظيمة الجليلة.
وكما قلنا فإن الرضا مستحب، وهو- كما قال بعض أهل العلم-: آخر مراتب التوكل، فمن جاهد النفس على الصبر، وروضها على التوكل أوشك أن يبلغ الرضا ومقامه الأعظم.
وأما الحديث الذي يذكره بعض الناس على أنه حديث قدسي عن رب العزة والجلال أنه قال: (من لم يصبر على بلائي ولم يرض بقضائي فليتخذ رباً سوائي).
فهذا ليس بحديث، إنما هو أثر من الآثار الإسرائيلية لا يصح عن النبي -عليه الصلاة والسلام- ولو صح لكان الرضا واجباً مفروضاً على الإنسان، ولكن من رحمة الله ولطفه بعباده، وعلمه بضعفهم أنه جعله مستحباً حتى إذا فاتهم شيء منه لم يكونوا تاركين لمأمور به.
ثم ننتقل إلى أمور عظيمة تبين لنا من خلال آيات القرآن مثل هذه المعاني، فالرضا بالله -سبحانه وتعالى- جاءت به الآيات القرآنية بمعنى القبول والاكتفاء التام الذي ليس وراءه مطلب ولا بعده بغية: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}(الأنعام: 14)
{إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ} (لأعراف:196)
{أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً} (الأنعام: 114)
{قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبّاً وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ} (الأنعام: 164).
فكل هذه الآيات تدل على هذا المعنى العظيم في الرضا بالله -سبحانه وتعالى-.
والرضا برسوله -عليه الصلاة والسلام- وارد بالأمر بالطاعة: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّه} (النساء: 80).
وفي التحذير من المخالفة: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (النور: 63).
والرضا بالإسلام في قوله -عز وجل-: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ} (آل عمران: 19)
وقوله: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} (آل عمران: 85)
وقوله: {وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} (الأنعام: من الآية163).
وكل ذلك يدل على أن هذه المعاني في أعماق القلب والنفس قد استقرت قبولاً بها، وطمأنينة إليها، وقبولاً واستحساناً، بل وسعادة وسروراً بها، واكتفاء بها عما سواها.
فمن علّق قلبه بالله فإنه لا يبتغي أحداً سواه، ولا يأنس إلا به، ولا يركن إلا إليه، ولا يعتمد إلا عليه، ونحو ذلك مما سبق ذكره.
وإذا جئنا لذكر بعض الأقسام فهنا نذكر جملة من المسائل المتعلقة بالرضا؛ لأن هناك أموراً تشكل على الناس.
المسألة الأولى:
ما صلة الرضا بالحزن الطبعي؟
إذا مات للمرء عزيز أو حبيب من ابن أو أب أو زوجة قد يحزن فهل يعارض هذا الحزن الرضا؟.
نقول: إن الحزن في ذاته لم يأمر به الله -عز وجل- بل نهى عنه في الجملة كما قال تعالى: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا} (آل عمران: 139)
{وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ} (النحل: 127)
{لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} (التوبة: 40)
{لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُم} (الحديد: 23)
{وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُم} (يونس: 65).
لكن ما كان منه بمقتضى الفطرة فلا بأس به دون أن يخرج عن أمرين اثنين:
الأول: الرضا بالصبر والتسليم والقبول، بل ورؤية الخير فيما يجري به قضاء الله وقدره.
الثاني: ألا يخرج به عن حدود المشروع، فلا يلطم خداً ولا يشق جيباً، ولا يدعو بدعوى الجاهلية، وإلا فإنه قد فارق حينئذ الرضا وفارق الصبر، وفارق الأمر، ودخل في النهي نسأل الله -عز وجل- السلامة.
والنبي -عليه الصلاة والسلام- لما مات ابنه إبراهيم دمعت عينه -عليه الصلاة والسلام- وقد دعته ابنته حتى يشهد، وإذا نفسه كشن تقعقع يعني عند خروج الروح فقال النبي -عليه الصلاة والسلام-: (إن العين لتدمع، وإن القلب ليحزن) فأثبت وجود الحزن الطبعي الفطري.
(وإن القلب ليحزن وإنا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون ولا نقول إلا ما يرضي ربنا).
لذلك تكلم بعض أهل العلم في موقف يروى عن بعض السلف أنه مات له ابن فعندما بلغه الخبر ضحك وابتسم، فقيل له: لم؟
قال: إظهاراً للرضا بقضاء الله وقدره، قال ابن تيمية -رحمه الله-: ولا يظن أن هذا أرفع من مقام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فإنه جمع بين عبوديتين، وهذا ضاق قلبه إلا عن عبودية واحدة.
فالرسول -صلى الله عليه وسلم- جمع بين عبودية الحزن وعبودية الانكسار لله -عز وجل- مع عبودية الرضا، وذاك ضاق قلبه، فلم يتسع إلا لعبودية إظهار الفرح دون وجود ذلك الحزن والانكسار، والشعور بقوة الله -سبحانه وتعالى-.
فهذه مسألة ينبغي أن ننتبه لها، والإفراط في الحزن يعارض الرضا، ولذلك ورد النهي وخاصة للمرأة لما يغلب عليها من الحزن بأثر عاطفتها: (لا تحد امرأة على ميت أكثر من ثلاث إلا على زوج).
بمعنى لا يزيد الحزن على الميت أكثر من ثلاث، وبعد ذلك يبقى ما يبقى في النفس، ولكن يتسلى الإنسان ويسري عن نفسه؛ لأن الحزن المبالغ فيه لا يجلب نفعاً ولا يدفع ضرا فلا فائدة فيه، وهو مما لم يأمر به الله، ولا يأثم صاحبه إن لم يقترن بحزنه محرم، كما يحزن الإنسان حزناً فطرياً- كما قلنا-، وقد يقترن بالحزن ما يثاب عليه صاحبه كالحزن على مصائب المسلمين، وعلى ما يقع بهم من الكوارث، فهذا حزن مثاب عليه، وهو لا يعارض ولا يناقض الرضا بقضاء الله وقدره، فذلك فيه حب الخير وبغض الشر، واستشعار الوحدة والأخوة الإيمانية، والمهم ألا يفضي الحزن إلى ترك المأمور.
المسألة الثانية:
ما الصلة بين الرضا والتوكل؟
وما الدلالة في معانيهما؟.
قال أهل العلم: الرضا والتوكل يكتنفان بالمقصود فالتوكل قبل وقوع الفعل والرضا بعد وقوعه.
فأنت تقبل على الأمر متوكلاً على الله معتمداً عليه، فإذا وقع بخلاف ما أردت أو بخلاف ما أمّلت أو بخلاف ما قدرت يجيئك الرضا بالله -سبحانه وتعالى- وبقضائه وقدره، فأنت محوط بعبودية الله في كل الأحوال إذا كنت مستحضرا لهذه المعاني الإيمانية.
ولذلك أثر عن عمر بن عبد العزيز -كما هو منقول عن الحسن- قال: الرضا عزيز، ولكن الصبر معول المؤمن.
وهذا دليل على عدم وجوب الرضا، ووجوب الصبر والاعتماد والتوكل لذلك هذا أيضا فيه مسألة أخرى وهي العلاقة بين الرضا والصبر.
المسألة الثالثة:
هل الرضا كسبي أو وهبي؟
هل الرضا أمر يمكن أن تجتهد فيه مع نفسك وتربيها عليه، أم هو أمر يهبه الله لمن يشاء؟.
والجواب عن ذلك أنه كسبي ووهبي في آن واحد فهو كسبي باعتبار الأسباب فمن روض نفسه على التوكل قبل فعل الأفعال، وأبقى اعتماده وثقته كلها على الله -عز وجل- فإنه لاشك يكون مهيأً للصبر على ما يُبتلى به، و الرضا بما يجري به القضاء والقدر.
ولذلك أخبر الله -سبحانه وتعالى- أن ثوابه للذين يصبرون ويجتهدون في التقبل والرضا عما يأتي به، فيرضى عنهم -سبحانه وتعالى-.
ولذلك قيل ليحيى بن معاذ: متى يبلغ العبد مقام الرضا؟
قال: إذا أقام نفسه على أربعة أصول فيما يعامل به ربه فيقول أي: لله -عز وجل-: إن أعطيتني قبلت وإن منعتني رضيت، وإن تركتني عبدت، وإن دعوتني أجبت.
من تحقق بهذه المعاني فهو آخذ بالطريق الموصل إلى مرتبة الرضا.
المسألة الرابعة:
هل يقتضي الرضا عدم الشعور بالألم وعدم الإحساس بالمكروه؟.
الجواب: لا، ولكن المقصود هو عدم الاعتراض وعدم السخط كما يرضى المريض بشرب الدواء المر، ألا يرضى به؟
ويحرص عليه؟
ويواظب على أخذه؟
مع أنه غير مقبول في طعمه، لماذا؟ لما يرجو وراء ذلك من نفعه وفائدته، وأثره في الشفاء بإذن الله -عز وجل-.
وكذلك كرضا الصائم في اليوم الشديد الحر، والمجاهد في الجهاد مع شدته لماذا؟
لما يبتغي وراء ذلك من أجر الله ومثوبته -سبحانه وتعالى-.
قال ابن القيم رحمه الله: بينك وبين الرضا همة عالية ونفس زكية، وتوطين النفس على كل ما يرد عليها من الله.
وما الذي يسهل ذلك للعبد قال: علمه بضعفه وعجزه، ورحمة الله -عز وجل به- وشفقته عليه وبره به، فعلمك بعجزك، وعلمك برحمة الله يفضي بك إلى الرضا بقضاء الله وقدره.
ولذلك لما قيل للحسن بن علي عن الرضا قال: من اتكل على حسن اختيار الله له لم يتمن غير ما اختار الله له.
من اتكل على حسن اختيار الله له، واعتمد أن الله يختار له الخير ويقضي له الخير ويريد به الخير فإنه ماذا يحصل؟
لم يتمن غير ما اختار الله له، فكل ما يقع له يكون عنده موضع القبول والرضا.
وقد أورد ابن القيم -رحمه الله- نادرة لطيفة وقعت بين وهب بن الورد وسفيان الثوري وثالث، كان سفيان يقول: كنت أخشى يوم الفجأة وموت الفجأة وأكرهه، واليوم أقول لو مت.
يعني: أنني أقبل ذلك، وقال الآخر كذا.
فقال قيل لوهب: وما تقول أنت؟
قال: لا أقول شيئاً، إنما أختار ما يختاره الله لي، فقبّل سفيان الثوري ما بين عينيه، وقال: روحانية ورب الكعبة.
يعني: أن قوله ذلك خير من أن يقول أنا أحب كذا، لأنه يقول أنا أحب ما يختاره الله -سبحانه وتعالى- لي.
ولذلك كان من دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه يقول: (أسألك الرضا بعد القضاء).
فلما تكلم بعض أهل العلم قالوا: لأن الرضا قبل القضاء عزم على الرضا، فأنت تعزم أن ترضى لكن قد يقع لك ما يقع فلا ترضى، فلذلك تسأل الله -سبحانه وتعالى- الرضا بعد القضاء، وكان من دعاء النبي -عليه الصلاة والسلام-: (أسألك الرضا بعد القضاء، وبرد العيش بعد الموت، ولذة النظر إلى وجهك الكريم، والشوق إلى لقائك).