أمسك عليك لسانك - الشيخ إبراهيم الدويش

مجتمع رجيم / المحاضرات المفرغة
كتبت : ~ عبير الزهور ~
-
أمسك عليك لسانك - الشيخ إبراهيم الدويش

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته


الحمد لله الرحمن الرحيم، اللطيف المنان، خلق الإنسان، علمه البيان؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، القائل في محكم البيان: (سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا) [آل عمران:181]، فحذَّر الإنسان من اللسان، وأنه والفرج جماع الخطايا والآثام. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله القائل: "مَن يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة"، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان.


أما بعد:


إخوة الإيمان: ففي كل ليلة تنعقد الجلسات، في الدوريات والاستراحات، والكثير منها لا يسلم من الأثام والسيئات، فمن نجى من غثاء القنوات لم ينجُ من تتبع العورات، وانتقاص الناس والسخرية بهم، والكذب والغيبة والخوض في الباطل، والثرثرة والتشدق في الكلام، والمزاح السمج الذي يقدح في الرجولة ورجاحة العقل، والتعصب والجدل الصاخب لرأي أو فريق؛ وكل ذلك بسبب إهمال اللسان، وجعله حبلا مرخيا في يد الشيطان.


روى أبو هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "ما من قوم يقومون من مجلس لا يذكرون الله فيه إلا قاموا عن مثل جيفة حمار، وكان لهم حسرة".


الراوي: أبو هريرة المحدث: الألباني - المصدر: تخريج مشكاة المصابيح - الصفحة أو الرقم: 2213
خلاصة حكم المحدث: صحيح


هل قرأنا القرآن فوقفنا عند قول الله تعالى: (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) [ق:18]؟

أسمعت أيها الإنسان؟

إنها رقابة شديدة دقيقة رهيبة تُطْبِقُ عليك إطباقا كاملا شاملاً، لا تغفل منك أمرا دقيقا ولا جليلا، ولا تفارقك كثيرا ولا قليلا.


كُلُّ نفَسٍ معدود، وكل هاجسة معلومة، وكل لفظ مكتوب في كل وقت، وفي كل حال، وفي أي مكان، عندها قل ما شئت، وحدِّثْ بما شئت، وتكلَّمْ بمن شئت؛ ولكن اعلم أن هناك مَن يراقب، وهناك من يسجِّل، وهناك من يعد عليك الألفاظ: (ِإذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) [ق:17-18].


إن هذه الآيات لتهز النفس هزا، وترجها رجَّا، وتثير فيها رعشة الخوف: (كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ) [الانفطار:11-12]. قال ابن عباس -رضي الله عنهما- في تفسير قوله تعالى: (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ)، قال: يكتب كل ما تكلم به من خير أو شر، حتى إنه ليكتب قوله: أكلت، شربت، ذهبت، رأيت؛ حتى إذا كان يوم الخميس عرض قوله وعمله فأقر منه ما كان فيه من خير أو شر، وألقي سائره، وذلك قوله: (يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ) [الرعد:39].


واسمع لهذه الآيات من كتاب الله تقرع سمعك وتهز قلبك: (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا) [الأحزاب:58]، (وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا) [الإسراء:36]، (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [النور:23-24]، وأخيرا (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ) [الفجر:14]، فربك راصد لك، ومسجل لكلماتك، ولا يضيع عند الله شيء.


أما أنت -أيها المؤمن المظلوم- فإن لك بهذه الآية تطمينا، فلا تخف ولا تجزع، فإن ربك لبالمرصاد لمن أطلقوا لألسنتهم العنان للطغيان وللشر والفساد.


ولتزداد بيِّنةً في خطر هذا اللسان الذي بين لحييك فاستمع لهذه الأحاديث: عن بلال بن الحارث المزني -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله ما كان يظن أن تبلغ ما بلغت يكتب الله له بها رضوانه إلى يوم يلقاه، وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله ما كان يظن أن تبلغ ما بلغت يكتب الله له بها سخطه إلى يوم يلقاه".


الراوي: بلال بن الحارث المزني المحدث: الألباني - المصدر: صحيح الترغيب - الصفحة أو الرقم: 2878
خلاصة حكم المحدث: حسن

وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقي لها بالا يرفعه الله بها درجات، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالا يهوي بها في سخط جهنم".


وفي لفظ لمسلم: "إن العبد ليتكلم بالكلمة لا يتبين ما فيها يهوي بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب". أسألك العفو يا إلهي.


فشغلنا الشاغل اليوم هو الجلوس لبث الكلمات، ونشر الشائعات، وكم من كلمة قصمت ظهر صاحبها وهو لا يعلم.


ولا شك أن فساد المجالس اليوم بسبب قلة العلم والاطلاع، إذ لو وجد لاستغلت أحسن استغلال، ولسمعت النكت العلمية، والفوائد الشرعية، والمسائل الفقهية بدلا عن القيل والقال وفلان وعلان؛ ولكن فاقد الشيء لا يعطيه، وهذا أثر من آثار الجهل وقلة البركة، حيث أصبح العلم مصدر رزق للناس.


وفي حديث معاذ الطويل قال -صلى الله عليه وسلم-: "... ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟"، قلت: بلى يا نبي الله. فأخذ بلسانه وقال: "كُفَّ عليك هذا"، فقلت: يا نبي الله، فإنا لمؤاخَذون بما نتكلم به؟! فقال: "ثكلتك أمك يا معاذ! وهل يكب الناس في النار على وجوههم -أو على مناخرهم- إلا حصائد ألسنتهم؟".


الراوي: معاذ بن جبل المحدث: الألباني - المصدر: تخريج مشكاة المصابيح - الصفحة أو الرقم: 28
خلاصة حكم المحدث: حسن

وفي حديث سهل بن سعد عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَن يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة".


وعن سفيان ابن عبد الله الثقفي قال: قلت: يا رسول الله، حدِّثْني بامر أعتصم به، قال: "قل ربي الله ثم استقم"، قلت: يا رسول الله، ما أخوف ما تخاف علي؟ فأخذ بلسان نفسه ثم قال: "هذا".


وقد بين المصطفى -صلى الله عليه وسلم- لأمته القاعدة الشرعية والمعيار الدقيق لمن اختلطت عليه الأوراق ليقطع الشك باليقين، وليسلم من الحيرة والتردد، فيقول -صلى الله عليه وسلم-: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا او ليصمت".


وهذه قاعدة شرعية نبوية فيها نجاة، وأي نجاة لمن التزمها!

لأنه لا يصح أبداً أن يؤذي المسلم إخوانه بلسانه، ولأن المسلم الصادق هو: "مَن سلم المسلمون من لسانه ويده".


والأحاديث في الباب كثيرة مستفيضة، وكم نحن بحاجة إلى من يرددها على مسامعنا وفي مجالسنا، واسمع لرواة هذه الأحاديث من السلف الصالح -رضي الله عنهم- يوم أن سمعوها فأفادوا منها علماً وعملاً وامتثالا للمصادر الشرعية الكتاب والسنة، وإليك الأدلة من حياتهم العملية:


روى الإمام مالك عن عمر بن الخطاب أنه دخل على أبي بكر -رضي الله عنهما- وهو يجبذ لسانه، فقال له عمر: "مَه! غفر الله لك"، فقال أبوبكر: "إن هذا أوردني الموارد".


وعن سعيد الجريري عن رجل قال: رأيت ابن عباس آخذا بثمرة لسانه وهو يقول: ويحك! قل خيراً تغنم، واسكت عن شر تسلم. قال: فقال له رجل يا ابن عباس مالي أراك آخذاً بثمرة لسانك تقول كذا وكذا؟

قال: بلغني أن العبد يوم القيامة ليس هو على شيء أحنق منه على لسانه.


وقال عبد الله بن أبي زكريا: عالجتُ الصمت عشرين سنة فلم أقد منه على ما أريد. وكان لا يدع أن يغتاب في مجلسه أحداً ويقول: إن ذكرتم الله أعنَّاكم، وإن ذكرتم الناس تركناكم.


وكان طاووس بن كيسان -رحمه الله- يعتذر من طول السكوت ويقول: إني جربت لساني فوجدته لئيماً راضعا.


وذكر هناد بن السري في الزهد بسنده إلى الحسن أنه قال: يخافون أن يكون قولنا(حميد الطويل) غيبة.


وعن جرير بن حازم قال: ذكر ابن سرين رجلا فقال: ذاك الرجل الأسود. ثم قال: أستغفر الله، إني أراني قد اغتبته.


وكان عبد الله بن وهب -رحمه الله- يقول: نذرتُ أني كلما اغتبت إنسانا أن أصوم يوما فأجهدني، فكنت أغتاب وأصوم، فنويت أني كلما اغتبت إنسانا ان أتصدق بدرهم، فمن حب الدراهم تركت الغيبة. قال الذهبي معلقا: هكذا والله كان العلماء، وهذا هو ثمرة العلم النافع.


وقال النووي: بلغنا أن قس بن ساعدة وأكثم بن صيفي اجتمعا فقال أحدهما لصاحبه: كم وجدت في ابن آدم من العيوب؟ فقال: هي أكثر من أن تحصى، والذي أحصيته ثمانية آلاف عيب، ووجدت خصلة إن استعملها سترت العيوب كلها. قال: ما هي؟ قال: حفظ اللسان.


وقال ابراهيم التميمي: أخبرني من صحب الربيع بن خيثم عشرين عاما ما سمع منه كلمة تعاب.


وقيل للربيع: يا أبا يزيد، ألا تذم الناس؟ فقال الربيع: والله!

ما أنا عن نفسي براضٍ فأذم الناس، إن الناس خافوا الله على ذنوب الناس وأمِنوه على ذنوبهم! صَدَقَ رحمه الل،ه فإننا نقول: نخشى عذاب الله من فعل فلان ومن قول علان، ولا نخشى من عذاب الله من أفعالنا وأقوالنا، والله المستعان!.


عباد الله: هذه النصوص من القرآن والسنة وأحوال سلف هذه الأمة تبين خطورة اللسان إن أطلق له العنان ولم يلجم بلجام التقوى والورع، كما تظهر شدة غفلتنا عن مراقبة وكبح جماحه، عن أبي سعيد الخدري -رفعه الله- قال: "إذا أصبح ابن آدم فإن الأعضاء كلها تكفر اللسان فتقول: اتق الله فينا! فإنما نحن بك، فإن استقمت استقمنا، وإن اعوججت اعوججنا، وكل منا حسيب نفسه".


أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.





الخطبة الثانية:


الحمد لله المحمود على كل حال، ونعوذ بالله من حال اهل الضلال، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله كريم المزايا وشريف الخصال، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه خير من صحب وآل والتابعين ومن تبعهم بإحسان.


أما بعد: عباد الله: فيقول الله تعالى في وصف المؤمنين من عباده: (وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ) [القصص:55]؛ ومن أجل البعد عن اللغو والحذر من آفات اللسان وأخذ النفس بالأدب ينبغي ملاحظة صور تتكرر في مجالسنا وقل من يسلم منها.


ومن هذه الصور المشاهدة في مجالسنا حديث العامة أن فلانا فيه أخطاء، وعلانا فيه تقصير، والثالث فيه غفلة، والرابع لا يسلم من العيب الفلاني!

وهكذا أقاموا أنفسهم لتقييم الآخرين، وجرحهم ولمزهم، فيا سبحان الله!

نسينا عيوبنا وتقصيرنا وغفلتنا وكثرة أخطائنا!.


ولو أعمل عاقل فكره في الجالسين فربما وجد في بعضهم بذاءة في اللسان، وسوءا في المعاملة والأخلاق، فهو إن حدّث كذب، وإن وعد أخلف، أو باع واشترى غش وخدع، وإن جاء للصلاة نقرها نقر غراب، مقصر في الفرائض، مهمل للنوافل، في وظيفته تأخر وهروب، وإهمال واحتيال، وفي بيته وسائل الفساد، وضياع الأولاد، وعقوق للأرحام، كل هذه النقائض وهذه المصائب عميت عليه فنسيها في نفسه، وذكرها في اخوانه فلم يسلم منه أحد، حتى الصالحون المخلصون.


فيا أيها الأخ، والله!

إني عليك لمشفق، ولك محب، فأمسك عليك لسانك، وكف عن أعراض الناس، وإذا أردت أن تذكر عيوب صاحبك فاذكر عيوب نفسك، كما قال ابن عباس -رضي الله عنهما-.


وقال أبو هريرة -رضي الله عنه-: يبصر أحدكم القذاة في عين أخيه وينسى الجذل أو الجذع في عين نفسه!.


وقال بكر بن عبد الله المزني: إذا رأيتم الرجل مولعا بعيوب الناس، ناسيا لعيبه، فاعلموا أنه قد مُكر به.


إذا رُمتَ أن تحيا سليماً من الردى *** ودينُك موفورٌ وعرضُكَ صَيِّنُ
فلا ينطقنْ منك اللسانُ بسوأةٍ *** فكلك سوءاتٌ وللناس ألسُن
وعينك إن أبدتْ إليك معائباً *** فدعْها وقل يا عينُ للناس أعين
وعاشِرْ بمعروفٍ وسامح مَن اعتدى *** ودافِعْ ولكنْ بالَّتِي هي أحسن


وربما جلس بعض الناس فذكروا زيدا وأن فيه وفيه، ثم ذكروا قول عمرو فأتقنوا فن الهمز واللمز، والعجيب أن معهم (فلانا) الصالح العابد الزاهد القائم الصائم، والأعجب أن من بينهم طالب العلم فلانا الناصح الأمين، والحمد لله!

لم يتكلما وسكتا؛ لكنهما ما سلما؛ لأن الساكت عن الحق شيطان أخرس، ولأن المستمع شريك للقائل ما لم يتبع المنهج الشرعي المتمثل بقول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "مَن رَدَّ عن عرض أخيه رد الله عن وجهه النار يوم القيامة".


الراوي: أبو الدرداء المحدث: الألباني - المصدر: صحيح الترمذي - الصفحة أو الرقم: 1931
خلاصة حكم المحدث: صحيح

واسمعوا لهذا الكلام النفيس من ابن تيمية، قال -رحمه الله-: ومنهم من يخرج الغيبة في قوالب شتَّى: تارة في قالب ديانة وصلاح، فيقول: ليس لي عادة أن أذكر أحداً إلا بخير، ولا أُحِبُّ الغيبة ولا الكذب، وإنما أخبركم بأحواله؛ ويقول: والله إنه مسكين! أو رجل جيد، ولكن في كيت وكيت! وربما يقول: دعونا منه، والله يغفر لنا وله! وإنما قصده استنقاصه، وهضمٌ لجنابه.


ويُخرجون الغيبة في قوالب صلاح وديانة يخادعون الله بذلك كما يخدعون مخلوقا، وقد رأينا منهم ألوانا كثيرة من هذا وأشباهه.


إلى أن قال: ومنهم من يحمله الحسد على الغيبة فيجمع بين أمرين قبيحين: الغيبة والحسد، وإذا أثنى على شخص أزال ذلك عنه بما استطاع من تنقصه في قالب دين وصلاح، أو في قالب حسد وفجور وقدح ليسقط ذلك عنه.


ومنه من يخرج الغيبة في قالب تمسخر ولعب ليضحك غيره باستهزائه ومحاكاته واستصغار المستهزأ به.
ومنهم من يخرج الغيبة في قالب التعجب، فيقول: تعجبت من فلان؛ كيف لا يفعل كيت وكيت!

ومِن فلان؛ كيف وقع منه كيت وكيت!

وكيف فعل كيت وكيت!

فيُخرج اسمه في معرض تعجبه... إلى آخر كلامه.


أيها المسلمون: إننا نغفل أو نتغافل فنُكثر في مجالسنا من القيل والقال، ونغتاب العشرات، وبأسمائهم، فإذا ذكَّرَنا مذكِّر او حذرنا غيور قلنا هذا حق، وما قلناه فيه صحيح، وقد يسرد الأدلة والبراهين على ما يقول فيزيد الطين بلة، فيا سبحان الله!

أليس النص واضحا صريحا؟

ألم يقل الصحابي لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أرأيت إن كان فيه ما أقول؟

قال: "إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بَهَتَّه".


الراوي: أبو هريرة المحدث: الألباني - المصدر: صحيح الترمذي - الصفحة أو الرقم: 1934
خلاصة حكم المحدث: صحيح

فلا مفر إذا!

فإن كان ما ذكرته صحيحاً فهذه الغيبة، وإن كان كذبا فهو ظلم وبهتان، فأمسك عليك لسانك! فعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لما عُرج بي مررتُ بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم، فقلت: مَن هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس، ويقعون في اعراضهم".


الراوي: أنس بن مالك المحدث: الألباني - المصدر: صحيح أبي داود - الصفحة أو الرقم: 4878
خلاصة حكم المحدث: صحيح

وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قلت للنبي -صلى الله عليه وسلم-: حسبُكَ من صفية كذا وكذا! تعني قصيرة. فقال: "لقد قلتِ كلمةً لو مُزجت بماء البحر لمزجته"، قالت: وحكيت له إنسانا، فقال: "ما أُحِبُّ أني حكَيْتُ إنساناً وأن لي كذا وكذا".


الراوي: عائشة أم المؤمنين المحدث: الألباني - المصدر: تحقيق رياض الصالحين - الصفحة أو الرقم: 1533
خلاصة حكم المحدث: حسن صحيح

وليس معنى هذا السكوت عن الأخطاء، أو التغاضي عن العصاة والفساق والمجاهرين وعدم التحذير منهم وفضحهم؛ بل هذه كلها مطالب شرعية، ولكن بالمنهج الشرعي والقواعد العلمية التي ذكرها علماؤنا، وانا على يقين من أن كثيرا مما يقال في مجالسنا لمجرد التحدث والتفكه، وربما لهوى وأحقاد وأضغان، عافانا الله وإياكم! و"رحم الله عبدا قال خيرا فغنم، أو سكت عن سوء فسلِم".


الراوي: خالد بن أبي عمران المحدث: الألباني - المصدر: صحيح الجامع - الصفحة أو الرقم: 3496
خلاصة حكم المحدث: حسن

وإن من أخطر ما يشاهد في مجالسنا إطلاق العنان للسان في التحليل والتحريم والسخرية والاستهزاء بالدين، فإنك تسمع وترى تسرُّع فئات من الناس في إطلاق ألفاظ التحليل والتحريم، وقد نهى الله عن المسارعة في إصدار التحليل والتحريم فقال: (وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ) [النحل:116]، وكان السلف الصالح -رضوان الله عليهم- مع سعة علمهم وفقههم لا يكثرون من إطلاق عبارات التحليل والتحريم؛ وهذا من شدة ورعهم ومحاسبتهم لأنفسهم.


يقول الإمام مالك -رحمه الله-: لم يكن من أمر الناس ولا من مضي من سلفنا، ولا ادركت أحداً أقتدي به يقول في شيء هذا حلال وهذا حرام، ما كانوا يجترئون على ذلك، وإنما كانوا يقولون نكره هذا، ونرى هذا حسَنا، ونتقي هذا، ولا نرى هذا، ولا يقولون: حلال ولا حرام.


أما نحن فنسمع عبارات التحليل والتحريم على كل لسان، وخاصة من العامة، بدون ورع ولا علم ولا دليل، مما أثار البلبلة عند الناس، والتقوُّل على الله بغير علم.


بل إن من أعظم المصائب أن بعض الناس يسخر ببعض أحكام الدين، ويهزأ بالصالحين والناصحين، وهؤلاء والله على خطر عظيم! ألم يسمع هؤلاء قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين ما فيها يهوي بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب" والحديث في الصحيحين.


ألم يسمع هؤلاء قول الحق -عز وجل-: (َيا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [الحجرات:11]، ألم يسمع هؤلاء قول الحق -عز وجل-: (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) [ق:18].


أيها المسلم: إياك إياك والسخرية بالدين واحكامه! أو بالناس، وخاصة الصالحين منهم! فإن عليك رقابة شديدة دقيقة رهيبة، فكل لفظ مكتوب، وكل حركة محسوبة، فكر بهذه الآية جيداً: (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ)، فحقٌّ على العاقل أن يكون عارفا بزمانه، حافظا للسانه.


أخي الحبيب: أيها المسلم، إنك أحوج ما تكون إلى العمل الصالح أحوج ما تكون إلى الحسنات، وأراك تحرص على مجاهدة النفس لعلها أن تعينك على القيام بعمل صالح من صلاة او صيام أو صدقة، وقد تنتصر عليها وقد لا تنتصر، وإن انتصرت وقمت بالعمل فلا يسلم من شوائب كثيرة من مفسدات الأعمال مثل: الرياء والنقص وحديث النفس وغيرها؛ ومع ذلك كله فإني أراك تبذر هذه الحسنات في المجالس والمنتديات!.


ماذا تقول في رجل أخرج من جيبه عشرات الريالات ثم نثرها في المجلس وبددها؟ أهو عاقل أو مجنون؟! وإن من جلس مجلسا ثم أطلق للسانه العنان فهذه علامة أكيدة على إفلاسه في الدنيا والآخرة؛ فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "أتدرون ما المفلس؟" قالوا: المفلس فينا مَن لا درهم له ولا متاع. فقال: "إن المفلس مِن أمتي يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه؛ ثم طرح في النار!".


الراوي: أبو هريرة المحدث: مسلم - المصدر: صحيح مسلم - الصفحة أو الرقم: 2581
خلاصة حكم المحدث: صحيح

وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لَتُؤَدُّنَّ الحقوق إلى أهلها يوم القيام، حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء".


الراوي: أبو هريرة المحدث: مسلم - المصدر: صحيح مسلم - الصفحة أو الرقم: 2582
خلاصة حكم المحدث: صحيح

فاحفظ حسناتك؛ فأنت أحوج لها!

واسمع لفقه الحسن البصري -رحمه الله- يوم أن جاءه رجل فقال له: إنك تغتابني. فقال: ما بلغ قدرك عندي أن أحكمك في حسناتي؟.


وعن ابن المبارك -رحمه الله- قال: لو كنت مغتابا أحدا لاغتبت والديّ؛ لأنهما أحق بحسناتي.


لقد فقِها -رحمهما الله تعالى- أن آفات اللسان تأتي على الحسنات، وقد لا تبقى منها شيئا.


إذا؛ فالنتيجة لإطلاق العنان للسان نتيجة وخيمة في الدنيا والآخرة، منها:
1-ضياع الحسنات وإفلاس الإنسان يوم القيامة كما تقدم.


2-فضحه وبيان عواره وهتك أسراره، والجزاء من جنس العمل، فعن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: صعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الى المنبر فنادى بصوت رفيع فقال: "يا معشر مَن أسلم بلسانه ولم يفض الإيمان إلى قلبه! لا تؤذوا المسلمين، ولا تعيروهم، ولا تتبعوا عوراتهم؛ فإنه من تتبع عورة أخيه المسلم تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف رحله".


ونظر ابن عمر يوما إلى البيت أو إلى الكعبة فقال: ما أعظمك وأعظم حرمتك! والمؤمن أعظم حرمة عند الله منك!.


والواقع يشهد بذلك، فكم فضح الله حقيقة ألئك الذين آذوا الناس بألسنتهم حتى عرفهم الناس وانكشف أمرهم.


3-أنه يعد من شرار الناس؛ فيتجنبه الناس ويحذرونه اتقاء فحشه وإن ضحكوا له وجاملوه، ومن ذلك قول النبي لعائشة -رضي الله عنها-: "إن شر الناس منزلة عند الله تعالى مَن تركه الناسُ اتِّقاء شره".


4-البلاء موكل بالقول، فيبلى المتكلم بما كان يذكره في أخيه، روي عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قوله: "لا تُظهر الشماتة لأخيك، فيرحمه الله ويبتليك".


وقال ابراهيم التيمي: إني أجد نفسي تحدثني بالشيء فما يمنعني أن أتكلم به إلا مخافة أن أبتلى به. وقال ابن مسعود: لو سخرت من كلب لخشيت أن أحول كلبا.


إخوة الإيمان: هذه شذرات حول اللسان، فاحذروه إنه ثعبان، وانتبهوا قبل فوات الأوان، رزقنا الله وإياكم صدق الإيمان.
كتبت : || (أفنان) l|
-

جزاك المولى خير الجزاء
يعطيك العافية وبارك الله فيك
ع اختيارك للموضوع الرائع والمهم ..جعله الله في ميزان حسناتك
دآئمآً مميزه بآختياراتك .. تسلم دياتك يالغاليه
دمتي بحفظهـ
كتبت : مرحة دوم مو يوم
-
بارك الله فيك .. واكثر من امثالك وجعلك ذخرا لعائلتك ..
منوره تقبلى مرورى ..

التالي

الأمر بالتقوى وبيان ثمراتها - الشيخ صالح بن فوزان الفوزان

السابق

الفرح المشروع والفرح الممنوع - الشيخ صالح بن فوزان الفوزان

كلمات ذات علاقة
أمسك , لسانك , الدويس , الصحى , عليك , إبراهيم