لوفر أبوظبي.. متحف كونيّ بمفهوم استثنائيّ جداً

مجتمع رجيم / الموضوعات المميزة فى العلوم الطبيعية
كتبت : بتول الغلا
-
استثنائيّ -259

متحف لوفر أبوظبي كما وجدته أمامي ليس متحًفا قائمًا على استنساخ متاحف عالمية كبرى وإنمّا هو متحف استطاع بالفعل أن يوجد لنفسه مفهومًا استثنائيًا مغايرًا لا نجده في متاحف العالم الأخرى؛ مفهوم واحد متماسك ومنسجم ويغري بالتأويل ويحرض على التفكير

يصدر متحف “لوفر أبوظبي” في تأسيسه الثقافي عن رؤية ثقافية استثنائية ومغايرة جدًا هي فكرة التواصل الحضاري بين حضارات العالم المختلفة منذ العصور الأولى للبشرية لبيان أنَّ العالم كان متصلاً بمعظمه في حركات التغيير والتلاقح الثقافي الكبرى، وأنَّ الشعوب والثقافات لم تكن منعزلة عن بعضها كما يتصور البعض من الباحثين. ويقوم هذا المتحف الكوني كذلك على فكرة ناقضة للمركزيات الأوروبية المتحكمة؛ فهو ينقض المركزيات الكبرى ويبرز مركزيات كثيرة موازية لها في الآن نفسه لاتقل عنها أهمية في ضخامة التغيير الثقافي والحضاري الذي أحدثته وآثاره الكونية العميقة.

يسرد هذا المتحف الاستثنائي جدًا قصة البشرية وتواصلها الحضاري الخلّاق في اثني عشر فصلاً هي قاعات المتحف الأساسية الاثنتي عشرة ، وفي مقدمة كل قاعة هناك أطلس تفاعلي للكرة الأرضية يصدر من الفكرة الجامعة لمنظومة أفكار المتحف وهي التواصل الحضاري والشغف الكوني بالتغيير. أشار أستاذ الجيو تاريخ المؤرخ الفرنسي كريستيان غراتالو إلى ضرورة إيجاد أطلس ثقافي كوني تفاعلي يتيح للمتلقي عندما يراه أن ينظر إلى الحدث الثقافي الكبير وتفاعلاته في العالم، أطلس يخرج عن إطار المركزيات الثقافية الحاكمة إلى التعدديات الثقافية الكبرى، أطلس يشترك فيه مؤرخون وأنثروبولوجيون وعلماء ومفكرون وفلاسفة من العالم كله، أطلس تفاعلي تاريخي ثقافي من الممكن اعتماده في المتاحف والمدارس والجامعات. ولقد وجدتُ جزءًا من هذا الأطلس الكوني الثقافي التفاعلي في متحف لوفر أبوظبي. إنَّ لوفر أبوظبي يبحث بالفعل عن المتشابهات في تواريخ البشرية، ويحِّرض المتلقي على التأويل والتحليل والتعليل ومن ثمَّ الاستنباط والخروج بمنظومة فكرية كلية متكاملة، فليست الذائقة الثقافية الجمالية هي المستهدف الأوحد، بل عقل المتلقي وقدراته التحليلية. وأعترف أن مثل هذا التحريض الثقافي الذكي لم أجده في عدد كبير من المتاحف العالمية التي زرتها: بعضها حرص فقط على فكرة التجميع الكولونيالي وبعضها الآخر اكتفى فقط بالذائقة الثقافية الجمالية أو بالعرض التاريخي البحت؛ وبالتالي لم يخرج عن فكرة “التجميع” الأولى التي صدرت عنها فكرة المتاحف والموسوعات الكبرى منذ عصر النهضة الأوروبية كما يذكر الناقد الإيطالي إمبرتو إيكو. لوفر أبوظبي ليس كذلك هو بالفعل خارج حدود التجميع لأنه متحف مصنوع بشغف كوني.

من الأمور الطريفة التي وجدتها في هذا المتحف المغاير قناعان لبوذا ُصِنعا في فترة متقاربة؛ الأول في الهند والثاني في الصين؛ القناع الهندي كان يحمل ملامح هندية لبوذا وأمَّا القناع الصيني فقد كان يحمل ملامح صينية له، وكلاهما لبوذا. وقد ذكّرني هذان القناعان بالأيقونات الدينية التي صُنِعَت لعيسى عليه السلام واختلاف تأويل الثقافات له؛ ففي الحبشة(أثيوبيا الحالية) اتخذ السيد المسيح ملامح إفريقية بحتة في حين صوَّرته الأيقونات المسيحية الأوروبية بالملامح الأوروبية. وكل قطعة أثرية أو فنية في هذا المتحف تم انتقاؤها بذائقة ثقافية ذكية ربطتها بمنظومة المتحف الفكرية والأمثلة كثيرة: الأقنعة المتشابهة لحضارات مختلفة، الكتب المقدسة، رمزية الماء في الثقافات المختلفة، رمزية برج بابل في الحضارات وحضور هذه الرمزية في بعض الكتب المقدسة وتأويلاتها كناية عن تفرق الأجناس البشرية وتبلبل الألسنة ونشأة اللغات الكونية العالمية. وحتى في القاعة الأخيرة للمتحف سنجد هذا المفهوم الناظم الشامل فهناك “نافورة الضوء” وهي عمل تشكيلي ما بعد حداثي يشتمل على كريستالات مصممة على هيئة برج بابل وغيرها من المقتنيات التي تبنت رؤية المتحف الكلية.

إنَّ متحف لوفر أبوظبي كما وجدته أمامي ليس متحفاً قائماً على استنساخ متاحف عالمية كبرى وإنمّا هو متحف استطاع بالفعل أن يوجد لنفسه مفهومًا استثنائياً مغايراً لا نجده في متاحف العالم الأخرى؛ مفهوم واحد متماسك ومنسجم ويغري بالتأويل ويحرض على التفكير. أبارك لدولة الإمارات العربية المتحدة الشقيقة هذا الإنجاز الثقافي الذي رسّخ مكانة أبوظبي بوصفها عاصمة ثقافية عالمية تحتفي بالتعدديات الثقافية الكونية الكبرى.