السنن في النعم والنقم للشيخ على بن عمر بادحدح
مجتمع رجيم / المحاضرات المفرغة
كتبت :
~ عبير الزهور ~
-
السنن في النعم والنقم للشيخ على بن عمر بادحدح
السنن في النعم والنقم للشيخ على بن عمر بادحدح
السنن في النعم والنقم للشيخ على بن عمر بادحدح
أولاً : فيما يتصل بحياتنا اتصالاً مباشراً ؛ فنحن نتقلب في نعم الله عز وجل ، وعندما نغفل عن شكرها ، ولا نعرف حقّها ، نكون معرّضين لنقمة الله عز وجل .السنن في النعم والنقم للشيخ على بن عمر بادحدح
السنن في النعم والنقم للشيخ على بن عمر بادحدح
ثانياً : أن إدراك هذه السنن ومعرفتها يعين كثيراً على فهم هذه الحياة الدنيا ، وتفسير الأحداث التي تجري فيها وفق سنن الله عز وجل ، وبالميزان الإسلامي والمنطق الإيماني، لا كما يفعل الناس عندما يفسرون الأحداث والوقائع بالأمور المادية ، وبالأشياء المحسوسة التي ليست في حقيقة أمرها إلا سبباً يجعله الله عز وجل ستاراً لما وراءه من حكمته ومن سنته الجارية .
ثالثا : أن هذا الدرس عندما نفقهه يكون معيناً لنا لتلمس أسباب النجاة والبعد عن مواقع سخط الله سبحانه وتعالى ؛ إذا العبد في هذه الحياة مقصوده أمران لا ثالث لهما .. تتبع ما يحبه الله ويرضى به عن العبد ، وتجنّب ما يُسخط الله ، وما يوجب للعبد عقابه وعذابه في العاجلة والآجلة .. نسأل الله السلامة .
وأخيراً : في هذا الدرس نفقه عظمة هذه النعم ؛ إذ نرى كثرة ذكرها في كتاب الله عز وجل ، والتحذير من جحودها ، وبيان الأمثلة التي وقعت فيما سلف من الزمان لمن أنكر وجحد وكفر نعمة الله عز وجل ؛ إضافة إلى أننا نرى في الآيات القرآنية التذكير بالنعم التي قد نغفل عنها ولا نراها - لدوامها وكثرتها - من النعم العظيمة .
ومن هنا ينبغي لنا أن نعطي مثل هذه الموضوع حقّه من حيث العلم به ، وأهم من ذلك من حيث العمل المتعلق به .. وأول مانبدأ به :
أن الله سبحانه وتعالى في أمر النعم ساق لنا منها الكثير .
وأول وقفة لنا مع نعم الله عز وجل ؛ فإن المتأمل المتدبر يرى :
أولاً : أن نعم الله سبحانه وتعالى كثيرة، وأنها من كثرتها لا يستطيع العبد أن يحصيها أو يحصرها ؛ فضلا عن أن يستطيع أن يدركها ، ويدرك لطف الله عز وجل له فيها، وقد قال سبحانه وتعالى : { وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار } وقال جل وعلا : { وإن تعدوا نعمة الله لاتحصوها إن الله لغفور رحيم } .
وهاتين الآيتين في أولاهن بيان كثرة النعم ، وفي آخرهما في كل واحدة منهما معنى مستقل ؛ ففي الأولى بيان أن كثرة النعم كثيراً ما يقابلها من الإنسان الظلم والكفران .. نسأل الله عز وجل السلامة .
ثانياً : أن كثرة النعم يقابلها من الله مغفرة ورحمة لمن غفل عن الشكر أو عجز عنه أو قصّر فيه، وكلا الأمرين فيهما بيان لنعمة الله سبحانه وتعالى .. وعندما نمضي مع الآيات القرآنية في النعم نرى فيما بعض التعداد لهذه النعم ، التي كما قلت بعضها لا ينظر إليه الناس على أنها نعمة من نعم الله سبحانه وتعالى، ولا شك أن أعظم النعم وأهمها ما يتعلق بنعمة الإسلام والإيمان { فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً كأنما يصعّد في السماء } فنعمة الأمن والإيمان والإسلام أعظم النعم التي يحصل بها طمأنينة القلب ، وانشراح الصدر ، ووحدة الفكر ، وهدوء البال ، وعدم تفرق النفس والقلب في أودية هذه الدنيا تضرب وتخبط خبط عشواء !
لا تقف على حكمة ، ولا تعرف راية ، ولا تخضع لإله واحد .. له حق العبودية والألوهية سبحانه وتعالى .
ومن النعم الجليلة العظيمة نعمة الأخوة الإيمانية ، التي تنبني على ذلك الإيمان والإسلام ، وهي التي منَّ الله سبحانه وتعالى بها على رسوله وعلى المؤمنين في قوله جل وعلا : { واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألّف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً } .
وإذا أردت أن تعرف مقدار النعمة ، فانظر إلى ما يقابلها من سلب هذه النعمة .. إذا أردت أن تعرف نعمة الإيمان ، فانظر إلى الكفرة وكيف تردّوا في هذه الحياة ، وحُرموا نعمة الطمأنينة والأمان والاستقرار وما يلحق بذلك من أمثال الإيمان .
وكذلك انظر عندما تسلب الأخوة من المجتمع كيف تشق البغضاء الصفوف ، وكيف يفرق الحقد بين الناس ، وكيف يصطرع الناس ويتقاتلون ويفني بعضهم بعضاً ، ويتربص بعضهم ببعض، فتنقلب الحياة إلى مرارة وإلى خوف وإلى تربص ، وتستحيل هذه النعمة إلى نقمة هي من أفتك وأشد النقم التي يقدّرها الله عز وجل بموجب حكمته وعدله سبحانه وتعالى .
ومن النعم ما ذكره الله سبحانه وتعالى أيضاً في الأمور التي تجري في حياة الإنسان ، ومنها خلق هذا الإنسان وما من الله عليه به من السمع والبصر والعقل، وكل تلك النعم لو أراد الإنسان أن يقدر واحدة منها ما استطاع .. وكما ورد في بعض الآثار ولو جعلت نعمة البصر في كفّة ، وكل عمل ابن آدم في كفّه لرجحت نعمة البصر بها وحدها ، ولقلّ ذلك العمل عن أن يكافئ شكرها، فكيف ببقية النعم ؟!
والله سبحانه وتعالى قد ساق بعض هذه النعم في آيات كثيرة جداً، ومن هذه الآيات الأمور الحياتية التي ينتفع بها الناس، كما قال سبحانه وتعالى : { وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون * لتستووا على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم إذ استويتم عليه وتقولوا سبحان الذي سخّر لنا هذا وما كنا له مقرنين * وإنا إلى ربنا لمنقلبون } .
هذه الدواب والمركوبات التي سخرها الله سبحانه وتعالى للإنسان لا يلتفت كثير من الناس إلى كونها نعمة ومنّة !
بل خلق الله عز وجل هذه الأرض وجعلها أيضاً نعمة حيث مهدها في سهولها وثبتها في أوتادها وجبالها ، ورزقها بمائها وأنهارها ، وأنعم على الإنسان فيها بثمارها وحيواناتها ..كل ذلك في أمر الخلق نعمة كبيرة من نعم الله سبحانه وتعالى، ومن النعم أيضاً نعمة الأمن ودفع الأذى ، وهذه نعمة كثيراً ما امتن الله بها على عباده المؤمنين ، كما قال الله جل وعلا : { واذكروا نعمة الله عليكم إذا جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحاً وجنوداً لم تروها } ، وكما قال سبحانه وتعالى : { إن الله يدافع عن الذين آمنوا } ، وكما بين الله سبحانه وتعالى : { واذكروا نعمة الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم فكف أيديهم عنكم } .
والله جل وعلا قد منّ وذكر منته على قريش وهي ما تزال على كفرها ، عندما قال سبحانه وتعالى : { أو لم نمكن لهم حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل شيء } ، وبيّن أن الناس من حولهم يتخطفون، فهذه النعمة لا شك أنها من أجل النعم ، وارتباطها دليل واضح وبين وصلتها بالاستقامة لا تخفى ؛ فإن الله سبحانه وتعالى قد قال : { الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون } فالأمن الداخلي في نفس الإنسان واستقراره ، والأمن الخارجي في أمن الناس على أموالهم وأرواحهم هو من أجلّ وأعظم هذه النعم ، ونعم الله كما أشرت كثيرة جداً .
ثالثاً : في شأن النعم أنها عندما يقع الكفر ، ويترك الشكر كثيراً ما تنقلب النعم إلى نقم، فالله سبحانه وتعالى قد قال : { وكأين من قرية هي أشد قوة من قريتك التي أخرجتك أهلكناهم فلا ناصر لهم } وهذا أمر بيّن ينبغي أن نعرفه ، والنعم في كلام الله عز وجل والآيات القرآنية فيها بيان ما يكون أحياناً من ذلك الكفران لهذه النعم التي ساقها الله سبحانه وتعالى .
إذن نعم الله سبحانه وتعالى كثيرة ونعمه في ما يتصل بالإنسان مباشرة كثيرة ، والنعم المعنوية أعظم وأكثر منّة ، وأكثر منة الله عز وجل فيها من النعم الحسية ، فنعمة الإيمان والأمن والأخوة هذه المعاني أعظم من نعمة الرزق والأكل والشرب والملك .. وإن كانت هي أيضاً نعم من الله امتن بها على عباده وذكّرهم بها .
عبادة الشكر
ثم نذكر أن حق النعم هو الشكر ، وعندما نقول الشكر فلا بد لنا من وقفة مع هذا الواجب واجب النعم هو الشكر ، والشكر هو الثناء على المنعم .
وجوانب الشكر ثلاثة ، متعلقة بالقلب واللسان والجوارح ، فكل منها يجب عليه شكر لنعم الله سبحانه وتعالى .
شكر القلب
الاعتراف والإقرار بالمنعم وفضله سبحانه وتعالى .. ذلكم يتجسد في الإيمان ومعرفة أسماء الله سبحانه وتعالى وصفاته والإقرار بأن هذه النعم منه سبحانه وتعالى ، كما قال جل شأنه : { وما بكم من نعمة فمن الله } .
شكر اللسان
وأما اللسان فشكره الثناء على الله سبحانه وتعالى ، ودوام الحمد واللهج بذكره، وهناك لطائف كثيرة ، وعبارات عديدة ، نُقلت عن سلف الأمة فيما يتعلق بحسن الثناء والشكر لله سبحانه وتعالى، فقد أثر عن بعض السلف أنه كان يقوم بالليل ، فيُثني على الله ، ويذكر نعمة الله عليه ويشكره عليها فيقول : " أنا الصغير الذي كبّرته ، أنا الضعيف الذي قوّيته ، أنا الفقير الذي أغنيته ، أنا العزب الذي زوجته .. " فما يزال يذكر نعم الله عليه ويتذكرها فيكون ذلك لهجاً بالثناء .
وأنت ترى أن الإنسان في الحياة الدنيا بطبعه وفطرته دون أن يخالطه رياء يحب إذا أسدى إلى الناس معروفاً يحب أن يكون ذكره عندهم حسناً، وأن تكون لصنائعه عندهم تقديراً والله سبحانه وتعالى يحب حمده ، لكن فرق ما بين الله عز وجل وما بين الإنسان عظيم جداً .. فالشكر الذي تشكر الله به هو في حد ذاته نعمة يحتاج فيها إلى شكر ؛ فإن توفيق الله للعبد أن يشكره ويحمده .. وغيرك من أهل الكفر ومن أهل الغفلة يتنعمون كما تتنعم ، ولكن لا يشكرون كما تشكر فهذا حرمان لهم .
شكر الجوارح
مقصود الشكر بها أن تستقيم على طاعة الله عز وجل ، وأن تستخدم النعم فيما أراد الله سبحانه وتعالى وطلب .. فلا تنظر العين إلى محرم ، ولا تستمع الأذن إلى إثم ، ولا تبطش اليد بضعيف ظلماً، ولا يكون منك خاطر السوء ، و لا التفكير في العدوان .. كل ذلك هو واجب هذه الجوارح لتقوم بشكر الله سبحانه وتعالى على الوجه المطلوب .
والشكر أيضاً في حقيقة وجوده في الحياة عند الإنسان المسلم له خمس مراتب، ذكرها ابن القيم رحمة الله عليه .
مراتب الشكر
1- الخضوع للمنعم
والذلة لله عز وجل ، الذي لا نكاد نلتفت يمنة ويسرة ، ولا نتقدم خطوة ولا نتأخر أخرى ، ولا نكون في نوم ولا في يقظة ، ولا في حل ولا ترحال إلا ونحن مشمولون برحمته ، مغمورون في نعمته ، يفيض علينا من فضله وجوده سبحانه وتعالى .. فأول أمرٍ في هذه المراتب الشكر الخضوع لله والذلة له ، والانكسار بين يديه، والإنسان عبد الإحسان .. أفلا ترى الناس يكون الناس هينين لينين لمن أسدى إليهم المعروف وقدّم إليهم النعم، والله عز وجل نعمه أكثر وحقه على العباد أكبر فأول ذلك الخضوع .
2- حب المنعم
فليس الخضوع خضوع رهبة ، ولا خضوع سطوة ، وإنما خضوع محبة، خضوع الذلة لمن كان محسناً إليك ، ولطيفاً بك ، وأسبغ عليك نعمه ظاهرة وباطنة ، فتتولد عندك الحب مع ذلك الخضوع .
3- الاعتراف بأن النعم منه وحده
فلا شريك له جل وعلا في أي نعمة من النعم التي تحظى بها، والخلق إذا أسدوا إليك النعم ؛ فإنما ذلك بتقدير الله وتيسيره ونعمته، فهو الذي أعطى صاحب المال مالاً ليعطيك ، وهو الذي أعطى صاحب القوة قوة لينجدك، وهو الذي أعطى صاحب السلطان حكماً ليدفع عنك .. فليس للبشر شيء ولا حول ولا طول ، بل الحول والقوة لله ؛ فإنه لا حول ولا قوة إلا به سبحانه وتعالى .
4- أن يترجم هذا الخضوع وذلك الاعتراف بالثناء على المنعم سبحانه وتعالى
ثناء صادق بتمجيده ، وذكر أسمائه وصفاته ، واستحضار منته ونعمته في الشدة وكذلك في الرخاء .. تعرّف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة ، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم .
5- الاستخدام لهذه النعم في شكر الله وطاعته .
ثم ننظر إلى أمر مهم وهو أن هذا الشكر قيد النعم، النعمة إذا جاءتك تريد أن تقيدها حتى تبقى معك، وحتى لا تذهب كما قال القائل في شأن العلم :
قـيـد صـيـــودك *** بالــحبــال الـواثـقـة
فمن الجهالة أن تصيد غزالة *** وتـفـكـها بين الخلائق طالقة
من صاد غزالة ؛ فإنه يربطها ويقيدها ؛ حتى تبقى عنده .. والشكر هو قيد النعم، وقد قال بعض السلف : " الشكر حافظ للموجود وجالب للمفقود " حافظ للموجود هو السياج، وليس السياج للحفاظ على النعم هم الحرس أو رجال الأمن أو أمن الشركات أو غير ذلك من أسباب التأمين .. كل تلك أسباب إذا لم يكن معها صدق التوكل وذلك الشكر ؛ فإنه يأتيها سبب من هنا أو من هناك وإذا بهذه النعمة تزول من بين يديك كأن لم تكن وكأنها كانت حلماً عابراً .
وكم رأى الناس في حياتهم عزيزاً ذلّ ، وغنياً افتقر ، وقوياً ضعف ..
ما بين غمضة عين وانتباهتها *** يبدّل الله من حال إلى حال
وسنذكر صوراً عجيبة ذكرها الله عز وجل للتدبر والتأمل ؛ لنربط بها مع واقعنا التي نعيش فيه، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم كثيراً ما ينبه على حفظ النعم بالشكر ، ومن ذلك الشكر الحفظ الدعاء ؛ فإنه قد ورد عنه صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم من حديث ابن عمر : ( اللهم إني أعوذ بك من زوال نعمتك ، وفجاءة نقمتك ، وتحول عافيتك ، وجميع سخطك ) .
وانظر إلى هذا الدعاء العجيب من النبي صلى الله عليه وسلم : ( اللهم إني أعوذ بك من زوال نعمتك ، وفجاءة نقمتك ، وتحول عافيتك ، وجميع سخطك ) ؛ فإن الإنسان قد يتعرض لفعل يفعله ، أو بقول يقوله لسخط الله عز وجل من حيث يدري ومن حيث لا يدري .
وكانت وصية عمر بن عبد العزيز رحمة الله عليه انه كان يقول : " قيدوا النعم بشكر الله سبحانه وتعالى " ، ثم إذا عرفنا أن قيد النعم هو الشكر ؛ فإننا نلحظ أمراً يحتاج إلى إيضاح وبيان ، ويكثر فيه الاستفسار والسؤال .. ذلك أن كثيراً من الناس ينظرون إلى الشرق وإلى الغرب ، يرون أهل الكفر وأهل المعصية ، وقد أغدق الله عليهم النعم إغداقاً ، وأفاض عليهم بركات السماء ، وفجر لهم خيرات الأرض .. فكأنهم يقولون : " كيف بقيت هذه النعم لأولئك القوم وهم ليسوا بمؤمنين ولا شاكرين ؟! " .
والجواب من أمرين مهمين :
أولاً : أن ذلك من عظيم سخط الله عليهم ، وذلك هو الاستدراج الذي قال الله تعالى فيه : { سنستدرجهم من حيث لا يعلمون } ، قال بعض السلف : " نسبغ عليهم النعم ونمنعهم الشكر " ، يسبغ عليهم النعم ولا يوفقهم للشكر .. فماذا يكون ؟!
يكون الأمر استحقاق للعقوبة القاسية القاصمة ؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : ( إن الله يمهل للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته ) فذلك إمهال حتى يزيدوا في كفرهم وغيهم ، ثم يستحقوا سخط الله عز وجل عليهم .. والله جل وعلا قد قال : { وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه اليم شديد }
ثانيا : أن هؤلاء وإن أوتوا النعم ؛ فإن الله سبحانه وتعالى قد ابتلاهم بكثير من النقم ، وكما قلت ليست النعم والنقم متعلقة بالأمور المادية ! بل تعلقها بالأمور المعنوية أعظم وأكبر .. فأولئك القوم قد حرموا الأمن ، وحرموا الأمان ، وحرموا الأخوة والترابط ، واضطربت نفوسهم ، وذلّت نفوسهم ، وتحللت أخلاقهم ، وشاعت بينهم الأمراض ، وابتلوا بكثير من البلايا والرزايا، ولا يلتفت إليها كثير من الناس ، ويخدعون بذلك البريق ، وذلك الخير الذي يسوقه الله عز وجل لأولئك القوم .
أسباب كفر النعم
والمقصود بالكفر هنا هو الجحود، يغطون هذه النعم ، ولا يذكرون المنعم سبحانه وتعالى .. فهناك أسباب كثيرة تقع من المسلمين المؤمنين في أمر كفرانهم للنعم .
1- عدم الشعور بالنعم :
ولذلك أسباب كدوامها وشمولها وعمومها، فأنت على سبيل المثال لا تشكر الله عز وجل على نعمة البصر أو على نعمة السمع أو على نعمة الذوق أو على نعمة الإحساس ؛ لأن هذه نعمة موجودة دائمة عندك لم تقدّرها قدرها ، ولم تشعر بأنها نعمة كأنها أمر حتمي لازم، ولو تأملت أثر النعمة من حيث فقدها ، وتأملها عندما تنقص عندك بعض الشيء .. فتكون صحيحاً ويبتليك الله بمرض ثم تبرئ من تلك العلة أو غير ذلك من الأسباب .. يذكرك بهذه النعم ، بل انظر إلى ما ذكر الله عز وجل من نعم عظيمة لا نفطن إليها ، وقد ساقها الله سوقاً يبين أهميتها ونعمة الله على الناس فيها، هذا الليل وذلك النهار وذلك القمر هو نعمة من نعم الله .
وإذا أردت أن تدرك هذه النعمة انظر إلى هذه الأرض وما فيها من بعض المناطق في أقصى شمالها أو جنوبها، فإذا يومهم معظمه نهار لا يكون لهم من الليل إلا وقت يسير أو على العكس من ذلك ، ليل لا يكون له نهار، فكيف تنتظم شؤون الحياة عندما يضطرب هذا النظام في هذا الكون .. هذه الشمس التي تشع بها الدفء ، ويكون بها الكثير من الخير من إنبات النبات ، وتبخير الماء ، ونزول المطر وغير ذلك .. لو حُرِمَ الناس هذه النعمة لكان موضع تدبر وتأمل ، كما ذكر الله سبحانه وتعالى { قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمداً إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بضياء أفلا تسمعون * قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمداً إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه أفلا تبصرون } .
والنعم التي ذكرتها أيضاً قد قال الله عز وجل عنها في قوله : { قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم وختم على قلوبكم من إله غير الله يأتيكم به انظر كيف نصرف الآيات ثم هم يصدفون } هذه نعم نغفل عنها لتكرارها .
ومن لطيف ما ذكر بعض أهل العلم تصور كيف يمكن للإنسان يشعر بالنعم، وكيف تكون النعم الدائمة ليست موضع إحساس عند كثير من الناس، قال : لو أننا تصورنا أن قوماً بنوا تحت الأرض ، وكانوا يعيشون فيها لا يخرجون إلى سطحها مطلقاً - كما يحصل الآن يبنون مناطق تحت الأرض أو للاحتماء من الغارات لو كانت هناك حالة حرب، وهذه القصة ساقها المؤلف في كتاب طويل سماه قصة الإيمان يذكر فيها بعض هذه المعاني - فإذا ولد الوليد في هذه المنطقة أو في هذا المكان فإنه لا يرى إلا عمداً تحمل تلك السقف ، ولا يرى إلا أنواراً وإضاءة أو مصابيح لتنير وتضيء .. وهذه أيضا معتمدة ومرتكزة على مصدر ، ولها ما يقومها .. لو أننا تصورنا العيش في هذا المكان دهراً طويلاً من الزمان ، ثم قيل له رحلة إلى سطح الأرض فأول ما يبهره ذلك السقف المرفوع بغير عمد ، وتلك الشمس التي تشع من غير مصدر، وغير ذلك من أسباب النعم والمخلوقات العظيمة التي يغفل الناس عنها لدوامها وتكرارها .
2- عدم النظر للمحرومين من النعم :
وهذا فيه حديث من النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح نبهنا إليه إلى هذا المعنى : انظروا إلى أسفل منكم - أي في أمور الدنيا - ولا تنظروا إلى من هو فوقكم ؛ فإنه أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عليكم ، نجد الناس كثيراً ما يكفرون بالنعمة .. تجدهم في أمن وأمان وعافية ، وعندهم قوت يومهم وأسبوعه وشهره .. ومع ذلك يسخط على نعمة الله ويتبرم بالحال، وإذا سألته أنبأتك تجاعيد وجهه ، ونظرات عينيه عن سخطه وجحوده وتبرّمه، ولو نظر إلى غيره لوجد من لا يجد مكاناً يأوي إليه ولا لباس يستر عورته ، ولا لقمة تسد جوعته .. ممن يلتحف السماء ويفترش الأرض، فلا يجحدن أحد نعمة الله ، فإذا كان ينظر دائماً إلى من فوقه .. إن كان صاحب شقة نظر إلى أصحاب الفلل ، فقال : " إني محروم من النعمة ! " ، وإن كان صاحب فلة - كما نقول - نظر إلى أصحاب القصور فرأى أن الله عز وجل قد حرمه من نعمته، وهكذا لا يزال الإنسان ينظر .. وهذا يجعله يكفر النعمة ولا يشكرها ، ولو أنه نظر إلى نعمة عافية بدنه لكانت ترجح بكل ما في هذه الدنيا من الأموال .
3- الجهل بالله وأسماءه وصفاته :
وذلك لغفلة العباد عندما ينسون معاني الإيمان ، ولا تحيا في قلوبهم ؛ فإن الإنسان إذا عرف أن الله عز وجل هو المعطي ، وهو المانع ، وهو المنتقم الجبار سبحانه وتعالى ؛ فإنه يخشى حينئذ أن تنقلب النعمة نقمة ، وإذا غفل عن هذه المعاني لم يكن عنده دافع أن يشكر النعمة ، وأن يعبد الله سبحانه وتعالى ، وأن يؤدي حق الله عز وجل في هذه النعم، والله سبحانه وتعالى قال في قصة قارون { أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً } ، هذا الذي يغفل هو الذي ينسى هذه النعم .
أسباب زوال النعم
أولا : المعاصي والذنوب
فكثيراً ما نرى في حياتنا أموراًً لا نفسرها بالتفسير الإيماني و القرآني الإسلامي الذي علمنا الله إياه في كتابه، وعلمنا إياه المصطفى صلى الله عليه وسلم في حديثه وسنته .. الله سبحانه وتعالى يقول على سبيل المثال في بعض المعاصي والذنوب والكبائر : { يا أيها الذين اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين } ثم ماذا يقول سبحانه وتعالى : { فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله } فإذا كان ذنب واحد وكبيرة من الكبائر مؤذنة بأن يكون المجتمع محارب لله عز وجل .. فكيف - عياذاً بالله - إذا كثرت الجرائم والفواحش والذنوب والمعاصي ؟
قال الله عز وجل : { ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون } .
ثانيا : نسبة النعمة إلى غير الله سبحانه وتعالى
وهذا أمر يشيع بين الناس كثيراً ، فتجدهم يغفلون عن المنعم الحقيقي ، ويذكرون بالثناء والحمد - بل بنوع من العبادة والذلة - للمخلوقين الذين ليس لهم حول ولا طول، فأنت ترى من باع دينه لدنيا غيره وأنت ترى من بدل دينه وبدل مبادئه لأجل دنيا يأخذها من هذا أو من ذاك، وأنت ترى من نعم أولئك أو هؤلاء أو أولئك وقد ذل لهم وخضع ، وجعل لهم عرضه ، وجعل لهم دينه وخلقه نهباً لهم كما يشاءون ، وهذا كله ضريبة وحرمان ونقمة من الله لمن لم يكن بالشكر بالخضوع والاعتراف له سبحانه وتعالى، وقد قال ابن كثير في تفسير قول الله تعالى : { وبنعمة الله يكفرون } قال : أي يسترونها يضيفونها إلى غير الله عز وجل، ونحن نعلم القصة التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح - الثلاثة النفر الأعمى والأبرص والأجذم - وما كان منهم من حال ، وما بدّل الله لهم من نعمة وكيف جحد اثنان منهم النعمة ونسباها إلى غير الله سبحانه وتعالى .
ثالثاً : الكبر والغرور والتعالي على الخلق
وكذلك قارون عندما قال : { إنما أوتيته على علم عندي } الكبر والغرر والتعالي على الخلق لمن يعطيه الله عز وجل بسطة في الجسم أو ثراء في المال ؛ فإنه يتكبّر ويتعالى على الناس ، والكبر بطر الحق وغمط الناس، وقد ساق الله عز وجل مثلاً لنا في هذا في قوله عز وجل : { ويل لكل همزة لمزة * الذي جمع مالا وعدده * يحسب أن ماله أخلده } اعتز بماله وقوته وجاهه وتكبر ، كما كان شأن فرعون عندما قال : { أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي } وبلغ به الكبر والعتو حتى قال : { ما علمت لكم من إله غيري } فهذا من أعظم أسباب حصول النقم ، ولذلك نهى الله عز وجل عن هذا ، وبيّن أن الأسباب والمظاهر التي تؤدي إلى الكبر أو تدل عليه منهي عنها ، كما قال سبحانه وتعالى : { ولا تمش في الأرض مرحاً إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا } كل ذلك بيان من الله سبحانه وتعالى لهذه السمة التي يستحق بها العبد سخط الله جل وعلا في الدنيا ، وحرمانه من جنته في الآخرة كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم ( لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر ) .
رابعاً : البطر والإسراف
وهذا نوع من عدم تقدير النعمة حق قدرها وعدم الشعور بأهميتها وقيمتها وفائدتها ونفعها، والله سبحانه وتعالى قد بين ذلك بياناً شافيا واضحاً في كتابه سبحانه وتعالى في قول الله جل وعلا : { وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميراً } وكذلك بين الله سبحانه وتعالى ذلك في القرية التي بطرت معيشتها ، وكانت مستحقة بعد ذلك لعذاب الله وسيأتي مزيد إيضاح في بعض هذه الصور .
خامسا : منع الحق الواجب في النعم
من مثل الزكاة وما افترض الله سبحانه وتعالى على الإنسان من الأعمال ، فزكاة البدن الطاعة والعبادة من صلاة وحج وجهاد وزكاة المال الزكاة المال والإخراج منه كما أمر الله سبحانه وتعالى، وكل شيء فيه فرض واجب من منعه فقد استحق أو أوجد سبباً من أسباب زوال النعم .
سادسا : معاداة أولياء الله سبحانه وتعالى
وإلحاق الأذى بالصالحين واستجلاب سخط الله عز وجل بدعاء أهل الخير على من ظلموا وطغوا وبغوا وتجبروا، وحسبنا حديث النبي صلى الله عليه وسلم في أمر واحد ونموذج واحد .. فكيف بما هو أكثر من ذلك وأعظم، يقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي عن رب العزة والجلال : ( من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب )
خلاصة حكم المحدث: [صحيح]
وليٌّ واحد فكيف إذا أوذي كل صاحب خير ، وكل صاحب سمت صالح وعمل خير ومبادرة إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، فذلك من أعظم أسباب زوال النعم ، وحصول نقم الله سبحانه وتعالى في هذه النعم وسلبها من أصحابها دون أن يشعروا بها .
فهذه جملة من أسباب زوال النعم ، ولذلك قال بعض السلف : " شعار المؤمن وأسباب سعادته الحمد والشكر والاستغفار " ، الحمد على المصائب ، والشكر على النعم ، والاستغفار من الذنوب .. فمن أدام الحمد في كل حال حتى مع وقوع البلاء والضنك وبعض ما قد يرى فيه مصيبة أو حرمان ؛ فإن حمده لله هو اللائق به والمناسب لإيمانه ويقينه بالله سبحانه وتعالى .
الشكر على النعم قد ذكرنا أمرها ثم الاستغفار من الذنب ، وهذا الشكر أمره عظيم ، وقد أوصى الله به في أعظم وصية يوصى بها الإنسان تجاه الله سبحانه وتعالى ، ثم تجاه أعظم أصحاب المنن عليه من البشر لقوله سبحانه وتعالى : { ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهنا على وهن وفصاله في عامين أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير } .