من شمائل وخصائص الرسول صلى الله عليه وسلم التوكل

مجتمع رجيم / السيرة النبوية ( محمد صلى الله عليه وسلم )
كتبت : ~ عبير الزهور ~
-
من شمائل وخصائص الرسول صلى الله عليه وسلم التوكل
من شمائل وخصائص الرسول صلى الله عليه وسلم التوكل


928874944.gif


من شمائل وخصائص الرسول صلى الله عليه وسلم التوكل

الشيخ على بن عمر بادحدح


حديثنا عن توكل النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أصدق التوكل وأعظمه وأكمله أولاها: عن الحقيقة والمعنى أي حقيقة التوكل ومعناه.
والثانية: عن تمثل هذه الصفة في خلق وحياة المصطفى صلى الله عليه وسلم.
فحلقة للمعرفة والفهم، وحلقة للتمثيل ومعرفة ما كان من شمائل المصطفى صلى الله عليه وسلم.
التوكل في اللغة:
يشتق من المادة الثلاثية (وكل) وهي تدور على معنى الاعتماد والاستسلام، فإذا وكلت أمرك لفلان فمعنى ذلك أنك اعتمدت عليه وإذا توكلت على الله فمعنى ذلك أنك استسلمت له سبحانه وتعالى.
وفي أصلها اللغوي هذه الكلمة دائماً تدل على الاعتماد على آخر في أمر ما.
وقال الراغب: التوكل أن تعتمد على غيرك، وتجعله نائباً عنك.
ولذلك يشتمل التوكل على معنى التفويض؛ لأنك إن اعتمدت على شخص فمعنى ذلك أنك فوضت هذا الأمر له، وخرجت من تدبيرك له، وبذل قوتك أو جهدك فيه إلى أن جعلته مسنداً إليه وقد فوضت الأمر إليه.
وقال ابن سيده: يقال: وكل بالله، وتوكل عليه بمعنى استسلم إليه.
وهذا المعنى واضح في المعنى اللغوي.
ولاشك أن الاعتماد يكون في غالب الأحوال لأمور معينة، فأنت لا تفوض الأمر إلى غيرك إلا لأحد سببين في أكثر الأحوال:
1- إما عجزك عن هذا الأمر فأنت تكله وتفوضه، وتستند فيه وتعتمد عليه لأن عنده من القوة والقدرة في هذا الأمر ما ليس عندك.
2- أو لانشغالك الذي لا تفرغ فيه عن أداء هذه المهمة، وهو أيضاً نوع من العجز أو صورة من صوره.
ولذلك غالبا ما يكون معنى التوكل متضمنا لمعنى عجز المتوكل، بمعنى أن المتوكل عنده صورة من صور العجز، فهو يجبرها بمن يرى أن عنده من القدرة ما يسد ذلك العجز، ويقوم من خلاله بالأمر.
والوكيل من أسماء الله الحسنى، وكما قال أهل العلم: معنى الوكيل: القيِّم الكفيل بأرزاق العباد وتدبير شؤونهم، وحقيقته أنه يستقل بالأمر الموكول إليه استقلالا كاملا تاما سبحانه وتعالى.
فنرى على سبيل المثال في حياة الناس: يكل الأبناء أمورهم وأمور معاشهم إلى آبائهم، وتجد الإنسان يقول لك: أنا خلفي أو ورائي كذا، يعني عندي عشر أنفس، أو عندي أسرتان أو كذا، يشعر بمسؤوليته تجاههم.
ولذلك ذكر الغزالي رحمه الله أنواعا تبين حقيقة هذا التوكل في مراتبه وأقسامه.
فهو ينقسم إلى:
1- توكل في بعض الأمور دون بعض، وهذا توكل ناقص، فأنت تعتمد على إنسان ما في واحد من أمورك فقط، لكن أمورك الأخرى لا تكلها إليه؛ لأنه غير قادر عليها.
2- وأما التوكل الكامل الذي لا يكون إلا لله عز وجل فهو المتوكل بالكل، فليس لأحد أبدا أن يدعي أنه موكول إليه كل الأمر، بل كل عنده شيء يوكل إليه محدود، حتى في الأعمال والوظائف، المدير قد يكون هو متوكل بأمر الشركة كلها، ولكن كل موظف له جزئية معينة، وهذا المدير موكولة إليه أعمال هذه الشركة لكنه لا يدير غيرها، فلذلك كل توكل في الحقيقة على غير الله هو توكل جزئي ناقص.
وهناك تقسيم آخر حسب الاستحقاق:
1- توكل واعتماد على من يستحق، لا بذاته ولكن بشيء آخر.
2- توكل على من يستحق بذاته.
فأنت عندما تتوكل على أي إنسان، فأنت لا تتوكل عليه بذاته، لم تذهب إلى فلان من الناس ليقضي لك حاجة في دائرة من الدوائر؟ لأن له فيها قريبا، فهو ليس بذاته مستقلا بالأمر، لكنه عنده ما يعينه على أدائها.
أما التوكل الحقيقي: فهو الذي يكون للمستحق بالتوكل بذاته، فهو لا يحتاج إلى غيره.
وتقسيم آخر حسب النتيجة:
1- قسم يفي بما يوكل إليه، أو يفي ببعضه دون بعض، وأكثر الناس لا يفي بما يوكل إليه على الكمال والتمام، بل لابد من نقص.
أنت تجاه أسرتك هل تلبي كل حاجاتهم وتفي بكل متطلباتهم؟ أنت تجاه نفسك وما تحتاج إليه أحيانا لا تستطيع أن تفي بذلك.
2- قسم يفي بكامل ما يوكل إليه، والكمال المطلق لله عز وجل، من توكل عليه كفاه ووفَّاه كامل ما يوكل به إليه.
ولذلك لابد أن ندرك أن حقيقة التوكل: أنه لا يكون إلا لله عز وجل.
وثمة ألفاظ تدور مع التوكل وهي ألفاظ متقاربة سنعرض بعضها في مسائل من حديثنا هذا، مثل: التفويض، والثقة، والكفالة، كما قال الشنقيطي في أضواء البيان: المعاني كلها متقاربة، ومرجعها إلى شيء واحد وهو أن الوكيل من يُتوكل عليه وتُفوض الأمور إليه ليأتي بالخير ويدفع الشر، وهذا لا يصح، أي على الحقيقة والكمال، إلا لله وحده جل وعلا.
ولهذا حذر الحق سبحانه وتعالى من اتخاذ وكيل دونه؛ لأنه لا نافع ولا ضار ولا كافي إلا هو وحده سبحانه وتعالى، عليه توكلنا وهو حسبنا ونعم الوكيل، ولذلك نفقه حينئذ المعنى الحقيقي لهذه الكلمة العظيمة.
التوكل في الاصطلاح:
وهو يدور على هذه المعاني التي ذكرناها في اللغة، ومما جاء به التعريف واسعا، ما ذكره ابن رجب في جامع العلوم والحكم، قال عن التوكل: صدق اعتماد القلب على الله في استجلاب المصالح ودفع المضار من أمور الدنيا والآخرة، وتحقيق الإيمان بأنه لا يعطي ولا يمنع ولا يضر ولا ينفع سواه.
فحقيقة التوكل على الله: هو الاعتماد عليه وتفوض الأمر إليه، والثقة بأنه قادر سبحانه وتعالى وكاف وحده بما فوِّض إليه، وما اعتمد فيه عليه سبحانه وتعالى.
وهذا أمر مهم لابد من معرفة حقيقته، وقد عبر العلماء في بعض التعريفات على ما يدل على هذا المعنى، وبعضهم يشير إلى أن التوكل في حقيقته: عمل قلبي محض، أي أن أساسه وجوهره بل كله يتعلق بالقلب، وكثيرون قالوا: إنه عمل قلب يسانده أو يرافقه عمل من الجوارح.
قال الإمام أحمد في تعريف التوكل: هو عمل القلب، أي في تفويضه إلى الله عز وجل.
وقال بعضهم في تعريفه: علم القلب بكفاية الرب للعبد، أي اليقين المستقر في القلب بأن الله كاف عبده في كل شيء: في شؤون رزقه وجلب مصالحه ومنافعه، وفي شؤون دفع الأذى عنه وحمايته ووقايته وكفايته، وهذا لا يكون إلا من الله عز وجل.
وقال بعضهم في تعريف أوسع وأجمع التوكل: انطراح القلب بين يدي الرب، وترك الاختيار والاسترسال مع مجاري الأقدار.
أي أن حقيقة التوكل عندما ينطرح القلب بين يدي الله، ويوقن أنه لا حول لا قوة إلا بالله، وأنه لا رزق ولا عون إلا من الله، وأنه لا دفع ولا وقاية ولا حماية إلا من الله سبحانه وتعالى، فحينئذ يترك الاختيار لنفسه إلى اختيار ربه له ويسترسل مع مجاري الأقدار، وليس في ذلك ترك للأسباب كما سنذكر في هذا الباب.
ونعرض الآن لنقطة أخرى، وهي بعض المسائل التي تكشف الشبهات أو بعض المعاني الغامضة، لنتمم هذا التعريف، هناك تداخلات بين قضايا لابد من تجليتها:
ما صلة التوكل بالأخذ بالأسباب؟

وهل الأخذ بالأسباب يناقض التوكل؟
وهل التوكل يعني ترك الأسباب؟
وإذا أخذ بالأسباب ووضع التوكل نصب العين، ما الذي ينبغي مراعاته في ذلك؟.
المسألة الأولى: ما صلة التوكل بالأخذ بالأسباب:
قال ابن القيم رحمه الله: التوكل من أعظم الأسباب التي يحصل بها المطلوب، ويندفع بها المكروه، فمن أنكر الأسباب، لم يستقم معه التوكل، ولكن من تمام التوكل عدم الركون إلى الأسباب، وقطع علاقة القلب بها، فيكون حال قلبه قيامه بالله لا بها أي بالأسباب، وحال بدنه قيامه بها.
والكلام هنا ليس فيه غموض، ولا بأس أن نعيد بعض ألفاظه مع التجلية والتوضيح، هنا يقول بالأسباب، ويقول بالتوكل واعتماد القلب معا، لكن كيف يقول: من ترك الأسباب فإنه لا يستقيم له التوكل، وتمام التوكل هو الأخذ بالأسباب، كيف يكون ذلك؟
يقول: أما قلبه فيكون متعلقا بمسبب الأسباب ورب الأرباب سبحانه وتعالى، ولن يكون تعلق القلب بهذه المسببات، كلا لا يكون التعلق بالأسباب، وإنما بخالق الأسباب سبحانه وتعالى، لكن الجوارح تأخذ بالأسباب.
وهذا مثال من أحسن الأمثلة التي تلامس واقعنا، عندما يمرض الإنسان ماذا يصنع؟
في الغالب أنه يذهب إلى الطبيب، فهل يعتقد قلبه اعتقادا جازما أن الطيب بيده الشفاء؟
إن وقع منه ذلك فقد أشرك مع الله غيره، وقد جعل لغير الله ما هو خاص بالله سبحانه وتعالى وحده، ثم إذا ذهب إلى الطبيب هل يكون ناسيا لله؟
ولقدرة الله؟
وهل لا يعتبر أنه متوكل على الله؟
الجواب: لا، هل يكون التوكل المطلوب منه أن يدع الذهاب إلى الطبيب، ويقول توكلت على الله؟
لا يستقيم ذلك له ولا يثبت على ذلك إلا قلة من الناس، وسيأتي حديثنا عن بعض الأحوال في هذا.
ماذا يقول الناس في واقع الأمر الآن؟.
تذهب إلى الطبيب، وتقول: ذهبت إلى الطبيب وأعطاني بعض الأدوية، ولم أستفد فذهبت إلى غيره، فماذا يقول لك الناس؟
لا دع هذا وذاك اذهب إلى فلان أبدا لا يمكن إلا أن تجد عنده الحل النهائي، وكأن لسان الحال دون الالتفات إلى المعاني القلبية الخطيرة التي ترد في قلوب الناس، هناك ستجد قطعا ويقينا شفاء دائك وعلاج مرضك، وهذه قضية خطيرة يلامسها ويعايشها ويمارسها بعض الناس في بعض أحوالهم، فإن من الناس من يكاد يجعل الأسباب موضع تعلق قلبه، بل موضع يقينه الذي لا يتسرب إليه الشك، وهذا هو الخطر الكبير، وهذا هو ضعف اليقين وخلل التوكل الذي يقع فيه كثير من الناس ولا يسلم منه إلا من رحم الله.
وننتبه إلى هذا الأمر، وكثيرة هي الأسباب، لكن نأخذ مثالا آخر أبعد من هذا، لكنه يوضح قضية الأسباب: المرء يحب أن يكون له ذرية، أبناء وبنات، فما رأيكم لو قال: أتوكل على الله حتى يرزقني الذرية وهو لم يتزوج؟
ممكن؟ هذا سبب ظاهر، لكن هل كل من تزوج رزق بالأبناء؟
قد وجدت أسباب لدى الناس، وتزوج ولكن الله عز وجل لم يشأ أن ينجب أو أن ينجب له أبناء، أليس كذلك؟
ومن الناس من كان على عكس ذلك، وهذا من قدرة الله الخارقة لم تتهيأ الأسباب كما خرق الله عز وجل هذه القواعد في ميلاد عيسى عليه السلام وفي خلق آدم عليه السلام وغير ذلك مما هو ثابت في النصوص المعروفة.
إذا الأسباب لا تعمل بذاتها، وإنما تعمل بتقدير الله عز وجل وإجرائه لقضائه وقدره بأن تعمل الأسباب، فالأسباب أسبابه.
ونذكر مثالا آخر للتوضيح: النار من الأسباب التي تسبب الحريق، صفة النار أنها محرقة، هل في ذلك شك؟

لكن الله جل وعلا قال: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ} (الأنبياء:69).
النار هي النار لكنها سلبت بأمر الله صفة الإحراق والحرارة، وجعلت على نقيض ذلك، وكما قال أهل التفسير، قالوا: بردا وسلاما، ما قال بردا، لو قال بردا لانقلبت النار إلى زمهرير ثلج وهو أيضا أذى، لكن بردا وسلاما أي: بصورة معتدلة لا يحصل بها الأذى، إذا هذه النار موجودة، فالأسباب قد توجد وتتخلف النتائج، وأحيانا لا توجد الأسباب وتوجد النتائج، على ماذا يدلنا هذا؟
يدلنا على قوة اليقين بأن المسبب للأسباب، وأن المجري للأقدار هو الله عز وجل.
ما هي الأسباب إذا؟ الأسباب أمر ظاهر، وهذا مثل أخير نؤكده، لأن هذه القضية تلتبس على الناس كثيرا، {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً } (مريم:25).
امرأة ضعيفة حامل في حال الولادة كيف تكون قوتها؟
ليس لها قوة ثم يأتيها الأمر "هزي إليك بجذع النخلة" ولم نسمع أحدا يؤمر بهز جذع النخلة.
هل سمعتم أن أحدا يسقط التمر بهز الجذع ولو اجتمع عشرة أو حتى أكثر من عشرة؟
قيل لها: "هزي إليك بجذع النخلة" فوضعت يدها لتهز فهل هزت يدها النخلة؟
لكن ماذا كانت النتيجة؟
"تساقط عليك رطبا جنيا" فتساقط الرطب وكان يمكن أن يتساقط بقدرة الله لِم لَم يسقطه الله بدون سبب منها؟.
ولما أمر الله عز وجل موسى قال: {اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْر} (الشعراء: من الآية 63).
هل ضرب البحر بالعصا يجعله يتحول من الماء إلى اليابس؟
لا، كان من الممكن بقدرة الله أن يتحول الماء إلى اليابس، أمر الله موسى بضرب العصا حتى يكون منه سبب، لكن النتيجة من الله عز وجل وهذا أمر لابد من فقهه.
المسألة الثانية: هل الأخذ بالأسباب يناقض التوكل؟:
التوكل والتواكل الفرق بينهما واضح.
التوكل: أخذ بالأسباب مع عدم اعتماد عليها أي عدم اعتماد القلب عليها.
والتواكل: ترك الأسباب والقعود عن الأخذ بالأسباب، وعدم السعي للحصول على ثمراتها ونتائجها.
وهذا -كما قلنا- ليس بتوكل على الحقيقة، وهنا نحتاج أيضا إلى التنبيه إلى أن مسائل معينة نحتاج فيها معرفة كيفية مخاطبة الناس، وهذا قد فعله النبي عليه الصلاة والسلام وانتبه له أصحابه عندما تذكر بعض النصوص يتواكل الناس فيتركون الأخذ بالأسباب، والحديث في هذا مشهور لما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بحق الله على العباد وحق العباد على الله، قال: أفلا أبشر الناس؟
قال: (لا تبشرهم فيتكلوا) يعني: يتركوا العمل.
ولذلك ورد في الحديث أن عمر رضي الله عنه جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: أبعثت أبا هريرة بقولك: (من يشهد أن لا إله إلا الله مستيقنا بها قلبه فبشره بالجنة؟) قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (نعم) قال عمر: لا تفعل فإني أخشى أن يتكل الناس عليها، فخلهم يعملون، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (فخلهم يعملون).
الراوي: أبو هريرة المحدث:مسلم - المصدر: صحيح مسلم - الصفحة أو الرقم: 31
خلاصة حكم المحدث: صحيح





قال: فخلهم يعملون: أي ينبغي لنا أن نراعي ذلك في حديثنا وخطابنا للناس بحسبهم، حتى لا يفضي بعض ما نحدثهم به إلى التواكل وترك العمل، وهذه كما قلنا مسألة مهمة.
المسألة الثالثة: ما الفرق بين التوكل والتفويض والثقة؟:
كلها معان متقاربة، قال ابن القيم: المراد أن الثقة خلاصة التوكل ولبه، أما العلاقة بين الثقة والتفويض فتتلخص في أن الثقة هي التي يدور عليها التفويض، وكثير من الناس يفسر التوكل بالثقة، ما معنى ذلك؟ متى تتوكل على أحد؟
إذا وثقت به، وإذا وثقت به توكلت عليه، وانتهى توكلك إليه بعد تجربة أولى وثانية إلى ماذا؟

إلى أن تفوض الأمر له، أنت لا توكل الإنسان أمرك كله مرة واحدة إنما أول الأمر تبحث عنه أو تسأل عنه أو تكون متعرفا به، فتثق به، فتسند إليه أمرا فيؤديه، ثم تسند إليه ثان فيؤديه، بعد ذلك بدون أدنى تفكير تفوض إليه كل أمر من هذا؛ لأنك قد وثقت به، ثم توكلت عليه ففوضت أمرك من بعدُ إليه، ولذلك بعضهم يجعل التفويض أعلى من التوكل.
ولكن ابن القيم رحمه الله قال: الحقيقة أن التوكل هو الأفضل؛ لأنه هو الذي ذكر في القرآن وأمر به، وهو الذي أثنى به الله عز وجل على رسله وأنبيائه.
المسألة الرابعة: الحالات التي يستحسن أو يعظم فيها شأن التوكل:
الموطن الأول: طلب النصر والفرج، لابد أن يكون التوكل أساسه، كما قال جل وعلا:{إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} (آل عمران:160).
الموطن الثاني: الإعراض عن الأعداء، وعدم الانتفاع بهم أو الاستعانة بهم، من سيكون قادرا على أن يترك الاعتماد على القوي وخاصة من الأعداء إذا كان عندهم بعض ما ينفعه؟ لكنه قد يعتمد عليهم ويضر دينه أو ينقص إيمانه أو كذا، فلا يستطيع أن يتحقق بذلك إلا عند صدق توكله، فإذا أعرضت عن أعدائك فلا معين لك إلا التوكل، كما قال جل وعلا: {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً} (النساء: الآية 81).
إن ظننت عندهم قوة، أو رأيت عندهم مالا، أو رأيت عندهم شيئا من نفع الدنيا وبعض مصالحها لا بأس، لكن إن كان ذلك على سبيل توصلك إلى الأمر الديني الذي تريده، أو ربما -كما قلنا- كون فيه نقص في الدين أو نقص في اليقين، أو تحوير أو تغيير أو تبديل في شرع الله، فأعرض عن هؤلاء واجعل عمدتك التوكل على الله سبحانه وتعالى.
الموطن الثالث: عند نزول وحلول القضاء بشيء من الفتنة والبلاء، لاشك أن الصبر والتوكل هما درعا المؤمن في هذا، والله جل وعلا يقول: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} (التوبة:51).
لاحظ ذكر التوكل في هذا القضاء؛ لأن القضاء إذا جرى على الإنسان فالتوكل بإذن الله موطن يعينه.
الموطن الرابع: عندما تدبر لك المكائد، وتحاك حولك المؤامرات، وتعرف أن حيلتك فيها قليلة، فافزع إلى التوكل على الله فإنه يدفع عنك الأذى، ويكشف لك الحيل والمكر، ويبطل الكيد الذي يكاد لك بإذنه سبحانه وتعالى، وخذ مثلا من القرآن في سير الأنبياء: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ} (يونس: الآية 71).
ويدل على ذلك أيضا آيات ونصوص أخرى كثيرة.
الموطن الخامس: الأذى، إذا واجهك الأذى المباشر، فالتوكل هو حقيقة الصبر، كما قال الله عز وجل: {وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا} (إبراهيم: الآية 12)
الموطن السادس: وساوس الشيطان وحبائله ووسواسه إنما يدرؤها عن الإنسان التوكل بإذن الله عز وجل، كما قال جل وعلا: {إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا} (المجادلة: الآية 10). ثم ماذا جاء في هذه الآيات في آخرها: {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ}.
لكي يكون لهم دفع لهذا الوسواس والنجوى والشبهات وغير ذلك، فعليهم بذلك كما قال جل وعلا: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} (النحل:99).
فهذه مواطن يتأكد فيها الأخذ بالتوكل والحرص عليه.
المسألة الخامسة: الطريق إلى التوكل:
كيف نصل إلى هذا التوكل؟
وما الذي يعيننا عليه؟.
ذكر ابن القيم في المدارج مراتب كثيرة، نلخص أساسها وجوهرها:
أولها: معرفة الله سبحانه وتعالى وصدق الإيمان به.
فإن المعرفة بعلم الله وقدرته وكفايته ومشيئته، هي الأساس الذي يجعلك تنطلق إلى حقيقة هذا التوكل، فالمعرفة الحقيقية بالله تجعلك تفضي بكل أمرك إليه، وتتوكل في كل شأنك عليه.
الأمر الثاني: إثبات الأسباب والمسببات.
حتى لا يقع الخلط بين التوكل والتواكل، والدعاء نفسه من الأسباب.
الأمر الثالث: رسوخ القلب في يقين الاعتماد على مسبب الأسباب لا على الأسباب.
الأمر الرابع: حسن الظن بالله.
فالعبد يعلم أن ربه سبحانه وتعالى كريم جواد، وقد قال عز وجل في الحديث القدسي الصحيح: (أنا عند حسن ظن عبدي بي، فليظن بي ما شاء).
ولا شك أن هذا أمر عظيم وجليل جدا، نؤكده الآن ونقف فيه وقفات، تدلنا على أمور عملية نحتاج إليها، ولابد لنا منها بإذن الله عز وجل:
* أول هذه الأمور: كما قلنا هذه المعرفة الإيمانية، وهنا أقف مع معرفة الأسماء الحسنى على وجه الخصوص: فإنها قرينة هذا التوكل وفقهه والثبات فيه والقوة فيه، تأملوا آيات التوكل والأسماء الحسنى التي قرنت بها: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ} (الفرقان: الآية 58).
لم ذكر هذا الاسم؟
الحي: وهو هنا إثبات ومع ذلك كرره أو ثبته بمعنى النفي، الذي لا يموت، لماذا؟
لأن الناس في كل أحوالهم في الدنيا يعتمدون على هذا أو ذاك. فهل يدوم لهم من يتوكلون عليه؟ أم أنه:
ما بين غمضة عين وانتباهتها يبدل الله من حال إلى حال
أليس كل حي إلى موت؟
فإذاً كل توكل على غير الله إلى فناء وانتهاء، والتوكل الحق الكامل المطلق لا يكون إلا على الحي الذي لا يموت، الذي لا تأخذه سنة ولا نوم، تأمل آية أخرى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ} (الشعراء:217).
العزيز معناه: الغالب الذي لا يقهر، ولاشك أنك لا تتوكل على ضعيف، ولا تعتمد على إنسان ضعيف.
لو كان هو أضعف منك كيف تتوكل عليه ما الفائدة أنت ضعيف وتعتمد على أضعف منك، لاشك أنك تريد أقوى، وتريد من هو في أعلى درجات القوة، وما رأيك إذا اعتمدت على الملك؟
ملك البلاد، ملك بيده السلطان بيده الأمر بيده النهي. أليس هو عزيز يعتبر؟
بلى، لكن ما رأيك إذا غضب هذا الملك يوما عليك؟ كنت في السابق متوكلا عليه، تستعين به ليبطش بعدوك، وليدفع عنك وليجلب إليك، فإذا تغير عليك؟
هل تراه يرحمك؟

أم أن ذات القوة التي فيه تنقلب نكالا وجحيما وعذابا عليك، والله عز وجل يقول: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ} (الشعراء:217).
عزيز غالب قوي لا يقهر، لكنه رحيم سبحانه وتعالى، كم تتوكل عليه فينصرك ويعينك، كم تخطئ فيرحمك ويغفر لك، ولا يكون كمال التوكل بالقوة والجبروت أبدا، الجبابرة والأقوياء قد تستعين بهم فليس عندهم إلا البطش، فليست عندهم رحمة، وليست عندهم عدالة في غالب الأحوال، فينقلب الحال عليك، ولذلك قال الله سبحانه وتعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ} (الشعراء:217).
وقال سبحانه وتعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (الأنفال: الآية 61).
أنت تتوكل على الإنسان لماذا؟
ليدفع عنك ويحميك، فكيف إذا تسلل عدوك إليك وهو نائم؟
لا يعرف شيئا، هل يستطيع مساعدتك؟
أنت الآن إذا اعتمدت على الشرطة في شيء يمكن أن يضعوا لك جنديا عند الباب، أو يمكن أن يراقبوا لك هاتفك، لكن لا يستطيعوا أبدا أن يكونوا محيطين بكل شيء، عالمين بكل شيء، والله سبحانه وتعالى وحده السميع العليم بكل الأحوال لا تخفى عنه خافية، لذلك هو وحده الذي يصدق التوكل الحقيقي عليه ولا توكل على الحقيقة إلا عليه سبحانه وتعالى.
ثم نذكر أمورا لابد لنا من التنبيه عليها، وهي بعض شؤون التوكل العملية:
نحن بحمد الله من أثر اقتفائنا لسنة النبي عليه الصلاة والسلام، وتعودنا على ما علمنا إياه من الذكر، نمارس التوكل بصورة عملية في كثير من الأحوال، أنت عندما تأتي إلى فراشك لتنام ألست تذكر الذكر الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم عند النوم؟
ما هو هذا الذكر؟
هو حقيقته التوكل، أليس كذلك؟
(اللهم إني أسلمت نفسي إليك، وفوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك) كلها ألفاظ توكل واعتماد، وتخلية نفسك من حولك وقوتك إلى الله عز وجل، نحتاج فقط إلى التأمل والتدبر فيما نقوله حتى يحيى في قلوبنا معنى التوكل الحقيقي.
ومثال آخر عندما تصلي تستحضر حديث النبي عليه الصلاة والسلام في الحديث القدسي الذي ذكر فيه فاتحة الكتاب: وأن العبد إذا صلى فقال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} قال الله تعالى: (حمدني عبدي) فإذا قال العبد: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } قال: (أثنى عليّ عبدي) فإذا قال: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} قال: (مجدني عبدي) فإذا قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} قال: (هذا بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل).
ما معنى أن نستعين بالله : يعني نتوكل على الله.
ثمار التوكل:
ما الذي نجنيه؟

ما الفوائد؟
ما الثمار؟
ما الحسنات؟
ما الخيرات؟
إذا نحن تحققنا من هذا التوكل وصدقنا فيه مع الله سبحانه وتعالى.
الثمرة الأولى: محبة الله {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} (آل عمران: الآية 159).
والمحبوب لا يعذب ولا يحجب ولا يبعد، فإن كنت متوكلاً فأنت لله محبوب فلا يحجبك ولا يبعدك ولا يعذبك بإذنه سبحانه وتعالى.
الثمرة الثانية: الحفظ والوقاية والكفاية التامة كما قال الله عز وجل: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُه} (الطلاق: الآية 3) يعني حسيبه وكافيه، وقال جل وعلا: {وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً} (النساء: الآية 81).
الثمرة الثالثة: الحفظ والحرز والوقاية من الشيطان على وجه الخصوص، كما ورد في حديث أنس في الصحيح عن النبي عليه الصلاة والسلام: (إذا خرج الرجل من بيته فقال: بسم الله توكلت على الله، لا حول ولا قوة إلا بالله، يقال له حينئذ: هديت وكفيت ووقيت، وتنحى عنه الشيطان).
ويقول شيطان آخر كما في الحديث (كيف بك برجل قد هدي وكفي ووقي) رواه أبو داود واللفظ له، وعند الترمذي لفظ آخر، فهذا أيضاً من أعظم هذه الثمار.
الثمرة الرابعة: زيادة الإيمان واليقين، وإن كان التوكل أثراً للإيمان لكنه أيضاً من أسباب قوة الإيمان، كما ورد عند البخاري في الصحيح من كلام ابن عباس رضي الله عنه قال: (حسبنا الله ونعم الوكيل قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قالوا: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيل} (آل عمران: الآية 173).
الثمرة الخامسة: التحرر من الأوهام والمخاوف، وكم نرى الناس اليوم أصبح عندهم تشاؤم، وبعض الناس أصبحت عندهم هستيريا وهواجس من أثر ضعف اليقين وعدم التوكل، فأصبح -كما يقولون- يخاف من ظله ويرتبك لأدنى أمر، وكأنما حاله والعياذ بالله كحال المنافقين الذين خربت قلوبهم بخلوها من الإيمان: {يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} (المنافقون: الآية 4).
في حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الطيرة شرك وما منا إلا ويحصل له شيء من ذلك، ولكن الله يذهبه بالتوكل) رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح.
إذا من ثمار التوكل: دفع هذه الخرافات والأوهام واليوم ترى الناس قد غرقوا فيها، ويقول لك: فلان قال لي لا تفعل كذا، وذهبت إلى فلان فقال: لا هذا الأمر كذا، وأنا قرأت لك وصنعت لك، فأصبح الناس الآن مذاهب شتى كلها تضرب في غير وادي التوكل والثقة بالله واليقين بنصره والاعتماد على حوله وقوته سبحانه وتعالى، ولذلك نحن نقول كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الدعاء: (اللهم لك أسلمت وبك آمنت وعليك توكلت وإليك أنبت وبك خاصمت وإليك حاكمت).
إذا ليس هناك شيء يؤثر بعد هذا التوكل الصادق مع الله سبحانه وتعالى.
الثمرة السادسة: الثناء الحسن، وقد جاء في نصوص القرآن ونصوص السنة، وفي كلام الأئمة، قال الله عز وجل: {وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} (آل عمران: الآية136) {الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} (النحل:42).
والمتوكلون قد ورد الثناء عليهم كثيراً، ومن ذلك ما ورد في قصص الأنبياء ففي كل آيات قصص الأنبياء تقريبا نرى أنهم ذكروا توكلهم على الله واستعانتهم به فهي صفة الأنبياء والمرسلين.
الثمرة السابعة: وهي ثمرة عظمى: استحقاق دخول الجنة قال النبي عليه الصلاة والسلام في الحديث المشهور عند البخاري ومسلم: أن سبعين ألفا يدخلون الجنة بغير حساب فظل الناس يفكرون في هؤلاء، فقال بعضهم: لعلهم الذين صحبوا الرسول صلى الله عليه وسلم، وقال بعضهم: لعلهم الذين ولدوا في الإسلام ولم يشركوا، فخرج عليهم النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (ما الذي تخوضون فيه؟) فأخبروه، قال: (هم الذين لا يرقون ولا يسترقون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون).
فهؤلاء بلغوا من اليقين وصدق التوكل حتى أنهم تركوا بعض الأسباب لا إنكارا لآثارها، وإنما من قوة اليقين بالله سبحانه وتعالى، ومن هنا قال العلماء: إن التداوي من الأمراض جائز، ليس واجبا، قالوا: لأنه ليس واجبا لمن عظم توكله وفوض أمره لله سبحانه وتعالى، وفي قصة أيوب عليه السلام مثل لذلك.
هذا التوكل في إيجاز بعض معانيه وكلماته وثماره ، وهو أسُّ كثير من الأعمال، بل كما قال ابن القيم رحمه الله: الدين في حقيقته أمران: التوكل والهداية، كما قال جل وعلا: {وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا} (إبراهيم: الآية 12).
والعبد آفته إما من عدم الهداية أو من عدم التوكل، إما ألا يكون مهتديا فيضل، أو يهتدي لكنه مع معرفته لا يلقي بتوكله على الله سبحانه وتعالى



كتبت : ~ عبير الزهور ~
-


توكل النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أصدق التوكل وأعظمه وأكمله، وقد خوطب النبي صلى الله عليه وسلم بالتوكل أمراً به وحثاً عليه وإلزاماً والتزاماً به كما في آيات كثيرة خوطب بها رسول الله صلى الله عليه وسلم والخطاب له ولأمته من بعده، كما في قوله: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} (آل عمران: الآية 159).
وكما خاطبه في شأن مواجهة ما يعرض له من عداء المعتدين وإيذاء المؤذين: {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً} (النساء: الآية 81 ).
وكما أمر به كذلك في الأحوال المتغيرة من حرب وسلم في قوله جل وعلا: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (الأنفال: الآية61).
وهذه مواقف تدلنا على أنه عليه الصلاة والسلام امتثل أمر ربه، وكان أصدق المتوكلين على الله سبحانه وتعالى.
فاعتماده وتفويضه وثقته بالله عز وجل عظيمة، وذلك في سائر ما مر في حياته عليه الصلاة والسلام سواء أكان في الفترة المكية التي غلب عليها ضعفه عليه الصلاة والسلام بقلة أتباعه وقلة حيلته وقلة قوته، أو كان ذلك في مواجهة أعدائه غير المتكافئ بقلة المسلمين وكثرة المشركين، أو حتى في غير ذلك مما انتهى إليه أمر النبي صلى الله عليه وسلم مما أعزه الله به ونصره على أعدائه وفتح عليه.
ومن ذلك هذه المواقف، وهي قليل من كثير.
الموقف الأول:
هذا الموقف في دعوة النبي عليه الصلاة والسلام في مواجهة قريش ومعاداتهم له وضغطهم عليه ووقوفهم في وجهه.
وكانوا يرون أن عمه أبا طالب سيد قريش يمثل حائلاً بينهم وبين أن يواجهوا النبي صلى الله عليه وسلم، وترددوا على أبي طالب مرات عديدة يكثرون عليه القول في شأن النبي صلى الله عليه وسلم.
يخاطبونه في تسفيه ابن أخيه لأصنامهم وفي ذمه لانحرافهم وشركهم، وفي إتيانه بهذه الدعوة الغريبة عليهم، فيطلبون من أبي طالب أن يخلي بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يجدون في أذاه ولمزه وغمزه عليه الصلاة والسلام.
وفي بعض هذه المرات والضغوط التي جوبه بها أبو طالب خاطب النبي صلى الله عليه وسلم لما أكثروا عليه فكلم رسول الله عليه الصلاة والسلام، وكأن لسان حال أبي طالب يقول: خفف أو انظر إلى ما يقول هؤلاء القوم، فإنهم قد يعرضون لك بالأذى، وأنا قد لا أستطيع أن أكون معك حامياً ومدافعاً في كل الوقت.
وقد كان النبي عليه الصلاة والسلام ينتفع بحماية أبي طالب له، لكن توكله إنما كان على الله، واعتماده إنما هو على مولاه، وثقته إنما هي على خالقه سبحانه وتعالى، ولذلك قال قولته المشهورة لما خاطبه أبو طالب قال: (يا عم والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته) رواه الطبراني في المعجم الأوسط والكبير وأبو يعلى، وقال الهيثمي رجال أبي يعلى رجال الصحيح.
فهذه قصة تدل على توكله عليه الصلاة والسلام فإنه يواجه قريشاً قاطبة وعندما يخاطب ليلين أو يغيّر أو يخفف يقول هذه المقولة، وهو يعلم أنها قولة عظيمة قد تفضي به إلى مواجهة حاسمة ومع ذلك يقولها عليه الصلاة والسلام واضحة جلية قوية مدوية.
(لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري).
وهذا أمر محال لكنه يقول: لو فعلوا ما فعلوا لو بلغوا ما بلغوا لو اشتطوا ما اشتطوا فإنه ثابت عليه الصلاة والسلام على دعوته، قائم بأمر ربه لا يأبه لهم ولا يكترث لعدائهم ولا يخشى من قوتهم ولا يلتفت إلى سطوتهم؛ لأن يقينه بالله عظيم وثقته به كبيرة، وهو مفوض أمره إلى الله سبحانه وتعالى قال: (على أن أترك هذا الأمر حتى أو أهلك فيه ما تركته).
وفي بعض روايات السيرة: (حتى تنفرد هذه السالفة) والسالفة صفحة العنق، أي: حتى ولو فارق رأسي جسدي، وهذا من أعظم توكله عليه الصلاة والسلام.
الموقف الثاني:
عندما خرج النبي صلى الله عليه وسلم من بيته وهو عالم بتآمر قريش عليه، بل ويعلم أن حول البيت من يحيطون به، ينتظرون خروجه لقتله عليه الصلاة والسلام.
ومع ذلك خرج عليه الصلاة والسلام في ثقة كاملة وطمأنينة تامة ويقين كامل بما أمره الله سبحانه وتعالى به، فقد أمره الله جل وعلا بالهجرة والخروج إلى المدينة، فامتثل أمر الله دون أن يكون مكترثاً بما قد يعرض له من الخطر، وإن كان قد أخذ بالأسباب كما سنذكر في هذه الحادثة وغيرها. والله عز وجل ذكر شيئاً من ذلك في الوصف: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} (لأنفال:30).
خرج النبي عليه الصلاة والسلام من بين أيديهم، وسيوفهم مسلطة وهم منتظرون مترقبون له، لم يكن في قلبه شيء من اضطراب ولا خوف، لم يكن في نفسه شيء من جزع ولا هلع، وإنما كان فيه من فيض اليقين وصدق التوكل ما جعله يخرج واثقاً بربه، موقناً بأنه سالم من بين يديه، وإن لم يكن يعرف كيف سيكون ذلك.
أغشى الله سبحانه وتعالى أبصارهم، أو ضرب النوم على عيونهم، فخرج من بين أيديهم، ولم يشعروا به عليه الصلاة والسلام: {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ} (يس:الآية 9).
وفي بعض الروايات في السيرة أنه حثا على رؤوسهم شيئاً من التراب، وهذا من صدق توكله عليه الصلاة والسلام مع أنه أخذ بالأسباب، ولعلنا نذكر قصة الأسباب متأخرة مع الحادثة الشهيرة في الهجرة التي سطرتها أيضاً آيات القرآن الكريم، ورواها لنا أبو بكر بألفاظ مختلفة.
ففي صحيح البخاري عن أبي بكر رضي الله عنه، وهذا لفظ البخاري والرواية عند مسلم قال: قلت للنبي صلى الله عليه وسلم وأنا في الغار لو أن أحدهم نظر تحت قدميه لأبصرنا، فقال عليه الصلاة والسلام على الفور: (ما ظنك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما).
وهذا يدلنا دلالة عظيمة على الاستشعار الحقيقي القريب الوثيق في نفس النبي صلى الله عليه وسلم برعاية ربه له وعناية مولاه به، ونظر الله جل وعلا إلى حاله وكلاءته له سبحانه وتعالى.
ولذلك أبو بكر لم يقل ذلك جزعاً، وإنما قاله خوفاً على رسول الله عليه الصلاة والسلام، وكانوا وقوفاً على فم الغار، ماذا كانوا يريدون؟

وأي شيء سيفعلون لو وجدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ هل كانوا سيسلمون عليه أو سيدخلون السرور عليه؟.
كان من المرتقب والمنتظر أن يكون وراء ذلك هلاك ماحق أو موت حاسم ومع ذلك قال بفيض اليقين وتمام التوكل ولسان ينبئ عن حقيقة مستقرة في القلب والنفس: (يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما).
والرواية الأخرى من حديث البراء بن عازب، وهو حديث جميل، حيث كان أبوبكر يطلب من عازب والد البراء أن يصنع شيئاً، فقال له البراء: لا أفعل حتى تخبرني ما كان من أمرك مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الهجرة، فقص أبو بكر هذه القصة فقال: ارتحلنا من مكة فأحيينا أو سرينا ليلتنا ويومنا حتى أظهرنا، يعني في اليوم التالي، وقام قائم الظهيرة فرميت ببصري هل أرى من ظل فآوي إليه، قال: فإذا صخرة أتيتها، فنظرت بقية ظل لها فسويته، ثم فرشت للنبي صلى الله عليه وسلم، ثم قلت له: اضطجع يا نبي الله، فاضطجع النبي صلى الله عليه وسلم، ثم انطلقت أنظر ما حولي هل أرى من الطلب أحد، فإذا أنا براعي غنم يسوق غنمه، فطلب منه أن يحلب له، قال: وانطلقت به إلى النبي فوافقته وقد استيقظ فقلت: اشرب يا رسول الله فشرب حتى ارتويتُ، ثم قلت: قد آن الرحيل يا رسول الله قال: بلى فارتحلنا، والقوم يطلبوننا، فلم يدركنا أحد منهم غير سراقة بن مالك بن جعشم على فرس له، قال أبو بكر: فقلت: يا رسول الله هذا الطلب قد لحقنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تحزن إن الله معنا) والحديث رواه البخاري ومسلم.


والله سبحانه وتعالى قد ذكر إشارة لهذه الواقعة في قول الله سبحانه وتعالى: {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} (التوبة: الآية 40).
وهذا من أجلى وأظهر مواقف التوكل في حياة النبي صلى الله عليه وسلم.
ولاشك أن التوكل هنا تظهر آثاره، عندما يكون الإنسان محاطا بالخطر والخطر محدق به غالباً ما يكون -إذا كان ضعيف الإيمان- قليل التوكل يضطرب ويحتار، ولا يمكن حينئذ أن يكون له حسن تصرف؛ لأن الأناة تذهب عنه ولأن السكينة تفارقه ويكون عنده شيء من الجزع الذي يجعله في شدة من الحزن والأسى كأنما الأمر قد انتهى.
لكن التوكل يفيض الطمأنينة ويجعل العقل في تمام الرشد والحكمة وحسن التصرف والتدبر، ويفيض كذلك صدق الالتجاء إلى الله عز وجل.
الموقف الثالث:
رواه جابر بن عبدالله وهو موقف أجلى وأوضح في شدة قرب الخطر المهلك ومع ذلك يكون ثبات كامل، ورباطة جأش تامة من أثر التوكل.
روى جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنه قال: غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة قِبل نجد، فأدركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في واد كثير العضاة، والعضاة: الشجرة ذات الشوك، فنزل الرسول صلى الله عليه وسلم تحت شجرة فعلق سيفه بغصن من أغصانها، وتفرق الناس في الوادي، كلٌ يبحث له عن شجرة يستظل بها، فبقي الرسول عليه الصلاة والسلام واحداً مفرداً لم يكن معه أحد من أصحابه، وسيفه معلق في الشجرة التي استظل بها، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم بعد ذلك مخبرا عما جرى له: (إن رجلاً أتاني وأنا نائم، فأخذ السيف، فاستيقظت وهو قائم على رأسي فلم أشعر إلا والسيف سلطاً في يده، يعني السيف مشرع ليس بينه وبيني أي شيء ، فقال لي: من يمنعك مني؟ فأجاب النبي على الفور قلت: الله، فأعاد من يمنعك مني؟
فأعاد الرسول صلى الله عليه وسلم: الله، قال: فشام السيف، معنى شام السيف:أي أغمده وتركه، وفي بعض الروايات أن الرجل ارتعد فسقط السيف من يده، فأخذه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: من يمنعك مني؟

فقال الرجل: كن خير آخذ، فتركه النبي عليه الصلاة والسلام، ثم قال: هذا هو الرجل فإذا هو جالس لم يتعرض له رسول الله صلى الله عليه وسلم.
في الصورة المعتادة لمثل هذا الموقف أن يكون كمال الخوف وشدة الهلع والاضطراب، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم بكامل الثقة والطمأنينة واليقين والتوكل يجيب إجابة الواثق بالله عز وجل يقول: الله، ثم يفضي ذلك أن الرجل يغمد سيفه أو يهتز من بين يديه، فيكون النبي عليه الصلاة والسلام هو الذي يأخذ السيف ويهدد ذلك الرجل، ويقول من يمنعك مني، فلا يجد الرجل من يمنعه من رسول الله عليه الصلاة والسلام، فيتركه النبي عليه الصلاة والسلام ويعفو عنه، ولا يؤاخذه بذلك.
الموقف الرابع:
حديث رواه أبو داود وابن ماجه في سننهما من حديث جابر بن عبدالله رضي الله عنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ بيد رجل مجذوم فأدخلها معه في القصعة ثم قال: "كل ثقة بالله وتوكلاً عليه".
التوكل هنا واضح، لكن هناك أسئلة الآن تدور في الذهن تتعلق بالأخذ بالأسباب لذلك نقول: ليس هنا ترك للأخذ بالأسباب، لكن النبي عليه الصلاة والسلام أراد أن يبين أمرين:
الأمر الأول: درجته العالية في التوكل التام على الله عز وجل.
الأمر الثاني: أراد أن يبين للأمة أن الأسباب ينبغي أن يؤخذ بها، لكنها ليست هي المؤثرة بذاتها.
والدليل أن المجذوم وضع النبي عليه الصلاة والسلام يده في الطعام، ولم يحصل من ذلك شيء ولا أثر.
فالناس نقول لهم: خذوا بالأسباب لكن الأسباب لا تؤدي أثرها إلا بإذن الله، لا يتضح ذلك حتى يكون في صورة عملية ومثال حي.
وهذا من صدق توكله وبيان مكانته العالية الرفيعة في التوكل، وهي تعليم للأمة، لماذا نقول ذلك؟
لأننا نقول: عندما جاء كفار قريش إلى الغار ألم يكن الرسول عليه الصلاة والسلام قد أخذ بالأسباب؟.
جاء إلى أبي بكر في نحر الظهيرة في وقت لا يتحرك فيه الناس، قال له: أعد الناقة ووافاه في الليل وليس في النهار، لم يتجه شمالاً باتجاه المدينة، لكنه اتجه جنوباً باتجاه اليمن نحو غار ثور بعيدا عن طريق المدينة، ثم اختبأ في الغار، وطلب من أبي بكر أن يهيئ بعض الأمور، فكانت أسماء تأتي بالطعام، ويأتي في آخر الليل عبدالله بن أبي بكر بأخبار قريش ويخرج قبل الفجر ويصبح في أهل مكة كبائت فيها، ويأتي راعي الغنم ويمر بالغنم حتى يغطي على آثار عبدالله بن أبي بكر.
خطة محكمة تامة أخذ فيها بكل الأسباب، لكن إرادة الله عز وجل تريد أن تعلم الأمة كلها أن الأسباب ليست بالضرورة تؤدي إلى النتائج.
هذه خطة محكمة لكن الله أراد أن يصل بعضهم إلى هذا الموطن لما قالوا إنهم قصوا الأثر حينئذ ماذا فعل النبي عليه الصلاة والسلام؟ لم يضطرب ولم يهلع، بل قال: (ما ظنك باثنين الله ثالثهما).
هذا أمر يبين صدق التوكل مع الأخذ بالأسباب حتى في قصة أبي طالب لم يرفض النبي صلى الله عليه وسلم حماية عمه أبي طالب لم يقل له أنت مشرك لا تدافع عني، لكنه عندما أراد أن يترك حمايته أو يريده أن يخفف من دعوته، قال: "لا والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري ما تركت ذلك.." كما أسلفنا القول في هذا الأمر، وهذا أمره واضح وبين ودلالته عظيمة في حياة النبي عليه الصلاة والسلام.
الموقف الخامس:
عن أنس رضي الله عنه بعد ذكره لبعض الصفات العظيمة في النبي عليه الصلاة والسلام: كان النبي صلى الله عليه وسلم أحسن الناس وأشجع الناس ثم ذكر لنا صفة أو حادثة، يقول ولقد فزع أهل المدينة ليلة فخرجوا نحو الصوت.
في رواية سهل بن سعد لهذا الحديث يقول: استيقظ الناس في المدينة على صوت صارخ في الليل، هنا فزع أهل المدينة فخرجوا نحو الصوت يعني بعد لحظات وحتى استوعبوا الأمر، وبدؤوا يخرجون قليلاً قليلاً، يقول: فاستقبلهم النبي صلى الله عليه وسلم قد استبرأ الخبر يعني ماذا؟ الرسول صلى الله عليه وسلم قد خرج وذهب وعرف الأمر ورجع، والناس لازالوا مترددين.
وفي الرواية نفسها قال سهل بن سعد: خرج الرسول صلى الله عليه وسلم على فرس عري لأبي طلحة، عري: يعني من غير سرج خرج مباشرة، نعم في هذا شجاعة ولكن فيه توكل، خرج وحده لم ينتظر أعوانا ولا صحبا ولا قوة، متوكلا على الله عز وجل معتمدا عليه، فخرج وراء الأمر ورجع، وهو يقول: (لم تراعوا، لم تراعوا) ثم يقول أنس في آخر الحديث: وجدناه بحرا، وإنه لبحر، يعني واسع في صفاته كلها عليه الصلاة والسلام.
ولذلك كان توكله في مثل هذه المواطن التي ذكرتها بعض كتب السيرة لا يجارى، ولا يبارى، ولا يشق له غبار عليه الصلاة والسلام.
الموقف السادس:
موقف سجلته آيات القرآن للنبي عليه الصلاة والسلام ولأصحابه رضوان الله عليهم، في غزوة حمراء الأسد، وهي التي كانت عقب أحد مباشرة، وكان يوم أحد شديدا وعصيبا ومؤلما للمسلمين عموما، ولرسول الله صلى الله عليه وسلم خصوصا، استشهد سبعون من أصحابه فيهم حمزة عمه وأسد الله وأسد رسوله عليه الصلاة والسلام، وقد شج وجه النبي وكسرت رباعيته، والصحابة كلهم مصابون، ثم في اليوم التالي أمر النبي عليه الصلاة والسلام الصحابة بأن يخرجوا للحاق عدوهم، في اليوم التالي مباشرة ليوم أحد، وقد سمعوا أن أبا سفيان يريد أن يرجع ومعه بعض الأعراب إلى المدينة ليستأصلوا شأفة المسلمين، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأمر الرسول ألا يخرج أحد لم يشهد أحدا، الذين أصيبوا خرج بهم النبي عليه الصلاة والسلام كيف ستكون قوتهم؟ كيف ستكون قوته؟ سليمين أم مصابين؟ فيهم حزن وألم أم لا؟.
ومع ذلك خرج النبي عليه الصلاة والسلام، وذهب إلى حمراء الأسد بعد أحد وانتظر يوما ويومين وثلاثة، حتى إن أبا سفيان أراد أن يرجع بالفعل، فماذا سمع؟ سمع أن محمدا خرج، فقال: خرج محمد وأصحابه، فخاف وواصل طريقه إلى مكة، قال الله عز وجل: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ} (آل عمران: الآية 173).
نتيجة الجمع أن يكون هناك خشية وخوف، فماذا قال الله عز وجل في وصفهم: {فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيل} (آل عمران: الآية 173).
وكان هذا من صدق توكل النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه، لم يستنصروا بأحد، لم يستعينوا بغيره، لم يأخذوا شيئا من الأسباب الزائدة عن الحد، بل خرجوا اعتمادا وتوكلا على الله سبحانه وتعالى.
وقريب من ذلك وأظهر منه في الجملة، ما كان في يوم الأحزاب، يوم أحاط المشركون بالمدينة إحاطة السوار بالمعصم، واجتمع بالمسلمين شدة الخوف وشدة الجوع وشدة البرد، وأكمل صعوبة الموقف شدة وبلاء وعسر نقض قريظة للعهد: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً} (الأحزاب:10،11).
عندما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم خبر نقض قريظة للعهد، ماذا قال؟ (الله أكبر، الله أكبر، أبشروا، أبشروا).
يقين كامل، وطمأنينة تامة، وتوكل صادق على الله سبحانه وتعالى، من غير جزع ومن غير هلع، لماذا؟ لأن الممتثل لأمر الله يعلم أن الله جاعل له مخرجا، وأنه مادام على أمر الله، فالعاقبة خير في دنياه أو في أخراه، وكذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في مثل هذا الموقف، وقد ورد في الحديث الصحيح عن ابن عباس قال: (حسبنا الله ونعم الوكيل: قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار، وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قالوا: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} (آل عمران: الآية 173).
التوكل القولي:
وأما التوكل القولي الذي كان يهيئ معاني التوكل في القلب عند الملمات والحاجات، وعند سائر الأحوال المعتادة فإنه كذلك من شمائله عليه الصلاة والسلام في التوكل.
روى أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا غزى، قال: (اللهم أنت عضدي ونصيري، بك أحول وبك أجول وبك أصول وبك أقاتل) رواه الترمذي في سننه وقال: حسن غريب.
هنا عند المعركة وعند المواجهة يدعو دائما عليه الصلاة والسلام بهذا الدعاء الذي فيه معاني التوكل: (اللهم أنت عضدي ونصيري، اللهم بك أحول وبك أجول وبك أصول وبك أقاتل).
يعني الاعتماد كله على الله عز وجل، وعلى قوته سبحانه وتعالى، وعلى نصره سبحانه وتعالى، وعلى حوله وقوته سبحانه وتعالى، وذلك تأكيد واستحضار لمعاني هذا التوكل في قلب المصطفى عليه الصلاة والسلام في مثل هذه الظروف العصيبة في مواجهة الأعداء وقتالهم.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول:(اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، اللهم إني أعوذ بعزتك، لا إله إلا أنت أن تضلني، أنت الحي الذي لا يموت، والجن والإنس يموتون) رواه مسلم. وقد ورد عن البراء بلفظ قريب في دعاء النوم.
وهنا نلاحظ المعاني الإيمانية في هذا الدعاء، في صدق الالتجاء إلى الله عز وجل: (اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت).
وكان صلى الله عليه وسلم يقول: (لا عدوى ولا طيرة، ويعجبني الفأل والكلمة الحسنة)
هذه بعض المواقف في شمائل النبي عليه الصلاة والسلام في التوكل، وهي جلية واضحة، وفيها درس وعبرة، وفيها قدوة وأسوة.
كتبت : Hayat Rjeem
-
اللهم صلِ وسلم وبارك على سيدنا محمد

بارك الله فيكِ وجعله فى ميزان حسناتك
كتبت : سنبلة الخير .
-
صلوات الله وسلامه

موضوع رائع

كفيتِ ووفيتِ غاليتي

جزاكِ الله خيرا وبارك الله فيكِ

سلمت يمنياكِ لانتقائك الهادف

لاحرمت الاجر
كتبت : دكتورة سامية
-
أختي الغالية
موضوعكِ متميز
بارك الله بكِ
اللهم املأ بالإيمان قلبها..
وباليقين صدرها..
وبالنور وجهها..
وبالحكمة عقلها..
وبالحياء بدنها..
واجعل القرآن شعارها..
والسنة طريقها..
اللهم اغفر لها ما قدمت وما أخرت
وما أسررت وما أعلنت
وما أنت أعلم به منها
أنت المقدم والمؤخر
وأنت على كل شيء قدير
وصلِ اللهُ على سيِّدِنا مُحمَّد وَعلى آلِهِ وصحبه وَسلّم
دمـتِ برعـاية الله وحفـظه

التالي

جامع صفاته الخَلْقية صلى الله عليه وسلم

السابق

من شمائل وخصائص الرسول صلى الله عليه وسلم الخوف والخشية

كلمات ذات علاقة
الله , التوكل , الرسول , شمائل , صلى , عليه , وحشائش , وسلم